تحميل المجلة الاكترونية عدد 1077

بحث

مغامرة

«أريد أن نقدّر اللحظات التي تجمعنا». كتبتُ إلى خالد حين وصلت «مسز مور». ظننتُها لا تقرأ العربية. اسمها ومظهرها جعلاني أحسّ بأنها هربت إليّ من فيلم أوروبي. السيدة مور تمشي حاضنة صحفها دوماً وتتكلّم كثيراً وتتغزّل بنفسها. ما زالت جميلة.

قبل أن أزورها أو قبل أن تأتي إليّ لتصحبني إلى السوق، أبالغ في الاهتمام بمظهري وأسرّح شعري. أضع ماكياجاً خفيفاً وأهتمّ بشكل عينيّ.

في السيارة حين أجلس إلى جانبها، أراقبها باستغراب وأظلّ مستغربة حركة جسمها وهي تحضن المقود وتقرّب جسمها منه. ولأنها طويلة القامة، قلت لها دون خجل إن عليها الاستغناء عن سيارتها الأوروبية الصغيرة. والسيدة مور تحكي عن أوروبا الوقت كلّه.

الدفتر الذي تخرجه من حقيبة يدها حين نجلس في المقهى "اشترتْه مع الحقيبة من روما". "حتى الدفتر"، قلتُ لنفسي. المجلات التي تشتريها أوروبية وشَعْرها أوروبي أيضاً. السيدة مور تسأل أسئلة كثيرة. تسأل باللغة العربية، فهي لبنانية متزوجة من بريطاني منذ أكثر من أربعين عاماً. وهي تريد أن تعرف عني كل شيء.

منذ انتقلت مع زوجي إلى بيت جديد في مجمّع سكني جديد في بلد جديد، أصبحتُ أراها كل يوم. والمجمّع بعيد عن وسط البلد، ما يجعلني أستأنس بزيارات السيدة مور ونزهاتها ورحلاتنا إلى السوق. ألمحها صباحاً أيضاً وهي تمارس رياضة المشي السريع، فتمرّ من أمام نافذة مطبخي.

يضحكني مظهرها صباحاً وهي تنظر إلى أعلى وتمدّ ذراعيها إلى الأمام وتخفي بأصابعها باطن كفّها كأنها تتحضّر لمباراة في الملاكمة. أزياؤها الرياضية دوماً بيضاء، ولا تشدّ شعرها الأشقر إلى الوراء بل تستعين بالنظارات الشمسية لرفع خُصَله.

«أريد أن نقدّر اللحظات التي تجمعنا». كتبتُ جملتي بخط واضح هذه المرة، وتركت الورقة على طاولة الطعام. نسيتها لانشغالي بضيفتي. وقبل أن أعود إلى "رسالتي السرّية" المهداة إلى خالد، رأيت ضيفتي تسترق النظر إلى الورقة، تحاول قراءة ما كتب فيها، وهي تسند كفّها إلى الطاولة وتميل بجسمها نحوها.

عمل خالد يأخذه مني معظم النهار والليل أحياناً. فأفرح بالسيدة مور وزياراتها وأتصل بها إن هي اختفت.

أنيقة السيدة مور تعلّق الشمس في أذنيها وتقف كأنها تتحضر لعدسة مصوّر محترف.

في السيارة بعدما انطلقت معها إلى السوق، سألتني عن سبب كتابتي ما كتبته في الورقة. اخترقت حياتي بسهولة وسرعة وبساطة. ولا أعلم لمَ وجدت نفسي مضطرة لإجابتها. في السيارة تكلّمنا طويلاً وقلت لها ما لم أقله لنفسي. لم أفهم سهولة الحديث معها ومتعته. كأن مشوار السوق كان هدفه حَملي على الكلام. جلست في مقعدي في سيارتها كأنني ممدّدة على أريكة طبيب نفسي. أنهكتني بسهولة ودون أن أحسّ. وفي السوق ونحن ننتقل من متجر إلى آخر، كنت أراجع ما قلته لها وألوم نفسي على كلامي الكثير. أردت فقط أن أعود إلى المنزل وأجلس أمام شاشة التلفزيون منتظرة خالد.

فما أراحني الشعور بأنني في منطقة خطرة وبأنني أفكر في ما لا أريد أن أفكر فيه. لا أريد أن أواجه السؤال عن السبب الحقيقي لإهمال خالد لي. بيني وبين نفسي قلت إنني سأتخلّص من السيدة مور وسيطرتها عليّ. حين عدنا إلى المجمّع شكرتها بخبث كأنني أنا مَن يقرّر عدم رؤيتها مجدداً. وبعد يومين من غياب صوتها عني، فرحتُ حين ردّت على اتصالي وسألتها: أين كنت؟ ألا تريدين الذهاب إلى السوق.

المجلة الالكترونية

العدد 1077  |  آب 2024

المجلة الالكترونية العدد 1077