تحميل المجلة الاكترونية عدد 1077

بحث

23 كيلوغراماً

إلى صديقة تفكر في الهجرة
لا أستطيع أن أقول لك: ابقي هنا. ولا يمكن أن أنصحك بالهروب. منذ ولد أبي وأبوك والوضع السياسي والأمني في بلدنا غير مستقرّ. ومتى كان وجودنا مستقرّاً؟ تقولين إن الغبيّ لا يتعلّم من دروس الماضي. معك حقّ، لكن عليك أن تمشي وتكشّي الأفكار السوداء. يجب أن تكشيّ القهر قبل أن يأكلك. البناية الوردية القديمة التي انتقلتِ إلى شارع مي زيادة لأجلها ستُطحن قريباً. ستختفي مثلما اختفى البحر من أمامك. حجبته الأبراج الجديدة. أَتقتلين نفسك لسبب مثل هذا؟

يجب أيضاً أن تتجاهلي مسلسل الكذب المتبادل، الكذب الخالص المصفّى المركّز  الذي تنقله الصحف ونشرات الأخبار. تجاهلي الصحف ونشرات الأخبار. يجب أن تكشّي القهر وتعيشي. تجاهلي الطقس أيضاً، والتلوّث. هل الطقس بدوره يحتقرنا؟ فكّري في سعادتك. هنا ولدتِ وهنا اكتشفتِ أمكنتك، هنا رتّبتْ حياتُك نفسها، هنا تفهمين أن عليك ألا تفهمي ما يدور حولك. هنا تركضين وهنا تكتبين، وهنا تتغيّر المناظر وتبقى بعض العقول على حالها، صغيرة محدودة. لا بأس.

يمكنك أن تلحقي بالذين غادروا. قسّمي حياتك إلى مراحل، واختاري منها ما يمكنك حمله في حقيبة لا يتجاوز وزنها 23 كيلوغراماً. يمكنك أن تبحثي هناك عن الذين غادروا، ولا تحزني إذا لم تجدي الوقت كي تجديهم. واعرفي أنهم لن يبحثوا عنك.

واكتبي هناك. أعرف أنك ستتمسّكين بالكتابة كي تتمسّكي بنفسك. ستكونين أكثر التصاقاً بنفسك، فاستفيدي من فرصة كهذه. قد ينصحك البعض بأن تتخفّفي من بعض صدقك. واعرفي أن الكذب على الناس هناك سهل. نعم، يمكنك أن تكذبي على الناس هناك. يمكنك أيضاً أن تكوني صادقة، ويقول البعض إن صدقك لن يوصلك إلى أى مكان. أعرف أنك تفضّلين أن تبقي في مكانك. كما أعرف أنك تلومين نفسك أحياناً، أعرف ذلك.

تتعجبين من قدرة البعض على الكذب. وتحاولين... لكن ليس سهلاً أن تتعلّمي الكذب.

يمكنك هناك أن تكتبي. الكتابة أسهل هناك. يقال إن المنفى يشحذ قدرتك على الإبداع. يمكنك أن تكوني صادقة، كما قلت لك، ويمكنك أيضاً أن تكذبي عليهم وأن تخترعي لنفسك ماضياً أسود، وأن تنسجي قصتك «الإيكزوتيكية». يمكنك أن تقولي إنك اضطُهدت وتلقّيت تهديدات بالقتل، وإن «المتخلّفين» في بلادك لا يفكرون إلا فيك ولا يرون غيرك، وقد تآمروا عليك، فهربتِ منهم لتنقذي كتابتك قبل أن تنقذي نفسك. هكذا يمكن أن تتحوّلي إلى نجمة في مقابلة تلفزيونية، ويمكن أن تُفتح لك الأبواب. وإذا كنت فعلاً تجيدين الكذب يمكنك أن تدّعي أن الغربة لا تجلد وأنها عذبة ومريحة أيضاً مثل فراش طفولتك. قولي إنها فراشك وغطاؤك. يمكنك أن تجرّبي. لكنني أعرف أنك لن تجرّبي خسارة نفسك.

المجلة الالكترونية

العدد 1077  |  آب 2024

المجلة الالكترونية العدد 1077