تحميل المجلة الاكترونية عدد 1077

بحث

أزقّة الماضي

سكنتني البارحة مساء حماسةٌ لكتابة تجربتي في مهرجان الكتاب الذي زرته أخيراً في أدنبره. سمّوه مهرجاناً، وهو فعلاً احتفال راقٍ بالكتب والفنون على اختلاف أنواعها. إلا أنني قبل أن أبدأ الكتابة مساء البارحة تحديداً سمعت أصواتاً قديمة. أحسستُ للحظة بأنني في حلم أو أنني أتخيّل مشهداً عشتُه من قبل مرات عديدة. وليس غريباً أن نسمع أصوات المفرقعات وما تُسمّى الألعاب النارية في ليل بيروتي شبه هادئ، لكن أصوات الطلقات كانت أشد عمقاً، كأنها تصبّ في بئر ذكريات طفولتي البيروتية. وقد تعرّفت إلى هذه الأصوات، لكنني حاولت أن أتجاهلها ثم أن أحرّرها من ذلك الشعور بالألم الذي عانقني ما إن سمعتُها. ولم أستطع. عادت إليّ أصوات معارك الشوارع في بيروت ثمانينات القرن العشرين، وهي أصوات طفولتي الأقل غموضاً والأقل قدرة على التلاشي.

عادت أصوات معارك الشوارع المفتعلة والحقيقية واستعدتُها في أقلّ من لحظة. وقد صدّقت سريعاً أن التاريخ توقّف عن الدوران في بلدنا وأنه يكرّر نفسه من دون أن يتحرّك أو يدور حول نفسه. أما التعلّم من أخطاء الماضي، فهو بالنسبة إلينا خطيئة لا نجرؤ على ارتكابها ولا تغري الفرق المتعدّدة على خشبة المسرح اللبناني. وإذا فكرنا في ما جرى وما يجري في لبنان، نقتنع بأننا الجمهور والكومبارس في مسرحيات لا يحرّك ممثليها منطق، يمكن أن نفهمه، ولا قواعد ولا أحكام. طردتني المعركة من صور أدنبره العالقة في رأسي. جرّتني إلى منطقة برج أبي حيدر البيروتية حيث أعادنا ما اعتُبر «إشكالاً فردياً» إلى أزقّة الماضي المعتمة. وقد تركنا في هذه الأزقّة قصصاً من طفولتنا ونُتفاً من ماض أحببناه لأنه جزء من عمرنا الأول.

أعود إلى أدنبره لأحكي عن جمهور يشتري بطاقات للاستماع إلى نقاش حول كتاب أو ليحاول فهم أسئلة الأدب. هذا الجمهور التقيتُ نماذج منه أنا والشاعر الفلسطيني نجوان درويش والروائي المصري حمدي الجزّار للحديث عن تجاربنا الأدبية في بلداننا العربية. كثيرون بين الحضور بدوا مهتمّين بعوالمنا، وقد دلّت أسئلتهم على رغبة في فهم حيواتنا ولوحاتها المختلفة بين وطن عربي وآخر، وأيضاً للمس الإنساني المشترك بيننا وبينهم. كانوا في غاية اللطافة يحرّكهم فضول ثقافي ينقصنا هنا، نحن أحفاد الاستعمار المستمرّ بأشكاله المختلفة.

نحن أيضاً، «الكتّاب العرب»، احتفلنا بكتب العالم التي التقت في أدنبره. زرنا الخيام البيضاء المزنّرة بالعشب الأخضر، وابتسمنا لوجوه تحرّك قسماتها الدهشةُ والفضولُ وهي تدور بين مؤلّفات من العالم كلّه. وقد امتدّ المهرجان إلى شوارع المدينة، فانتقلت دهشة الوجوه إلى العروض المسرحية والمعارض الفنية التي استوطنت الشوارع. هناك لا تهدّد الحياة نفسها بالانتحار. وهناك ننسى بأننا مهددون كلّ لحظة بالغياب. أما هنا، فللغياب وكلاء وعملاء وسماسرة وأحزاب (بعضهم عملاء للاستعمار المستمرّ). هنا الموت العبثيّ حاضر أبداً وفكرة الهروب منه تبدو أكثر عبثية. إلى أين؟ سألتني صديقتي قبل أن تخمد نيران معركة البارحة.

المجلة الالكترونية

العدد 1077  |  آب 2024

المجلة الالكترونية العدد 1077