تحميل المجلة الاكترونية عدد 1077

بحث

ظلّ

يتدلّى قلبي من سقف المقهى. لم يأتِ أحد بعد. أشرب وحدي قهوة الصباح. لم يتغيّر المكان. تغيّرت علاقتي به. انتظرتُ أن ينضمّ إليّ وأن يشكو الهواء الصيفي الكئيب. أنا أيضاً أكره الصيف. لكنه لم يأت. أعرف أنه لن يأتي. والآن فقط صدّقت أنني ما كان يجب أن أصدّقه. وقد حذّرني من قلقه، وقال إنه يمكن أن يمشي في أية لحظة. ضحكتُ وسألتُه: «تمشي إلى أين؟ لقد عدت لتستقرّ في بيروت، عدتَ لتستقرّ، لا لتهرب مني». وضحكتُ. ما كان ممكناً ألّا أفاجأ برحيله. حدث كل شيء في يوم واحد. ثم ركضت أبحث عن رسالة منه وزرت أمكنة لقاءاتنا لأعذّب نفسي بغبائي.

جاء ليرحل. لعبة الاختفاء لعبتي في العادة. لكنني هذه المرة قررت أن أعيش إحدى قصص الغرام. وصدّقت دوري. حاول أن يرفض دوره إلا أنني لم أقبل رفضه. ربما لهذا السبب لم يودّعني. ولم يدوّن اعتذاراً على ورقة ملوّنة ومعطّرة، وما وصلتني منه رسالة إلكترونية. لم أجده. وبعدما غادر اكتشفت أنني لا أعرفه. ظننتُني قد ربّيته «على يديّ». ظننتُني أعرف عاداته كلّها: القهوة في الحادية عشرة والاستماع إلى الموسيقى بعد الخامسة والزيارات الأسبوعية إلى نوادي الجاز وكوابيس الطفولة التي ما زالت تسكن نومه. بعدما غادر اكتشفت أنني عرفت شخصاً آخر. ما ودّعني ولا ودّع أمكنتنا. ما ودّع المكتبة ولا مقهى الصباح. غادر كأنه ينتقم منا نحن سكان هذه المدينة البائسة.

أما أنا، فأستطيع أن أتنفس من دون أي شعور بالندم. وأستطيع حين أزور الطبقة الثانية من مكتبة الجامعة أن أقول إننا هنا التقينا، هنا الهواء خفيف ورائحة الكتب تطيل الحياة. أدوّن أسئلتي ولا أسألها، تبقى في عهدة الأوراق. لا أعرف لمَ يكره الوداع ولم لا يملّه هذا الجبن الذي ولد معه؟ كان عليه أن يترك لي ورقة أو صوتاً أو أغنية أو اعتذاراً أو صورة. يعرف أنني أحبّ الصور. لكنه ترك لي فقط ظلّه. وأنا أطارد ظلّه من المقهى إلى المكتبة. عدت إلى المكتبة، وسأعود غداً أيضاً وأجلس هناك، في تلك الزاوية حيث ما زال ظلّه ملتصقاً بالجدار، يرفض غيابه. البحر خلف النافذة في المكتبة تؤطّره أغصان الشجرة العالية. هنا يمكن أن أتخيّل أنني في مدينة أخرى، مدينة لا تغيّر جلدها كل لحظة. وهنا أيضاً يمكن أن أقبل باختفائه وأقبل بأنني سعيدة بوحدتي أطارد ظلاً في المدينة.

المجلة الالكترونية

العدد 1077  |  آب 2024

المجلة الالكترونية العدد 1077