تحميل المجلة الاكترونية عدد 1077

بحث

أفلام الواقع

تفاجئه حياته الجديدة في بيروت. يعزف غرابتها على لوحة مفاتيح الكومبيوتر. هنا في شارع يحمل اسم مستعمر سابق، أصبح كاتباً. قرّر علي أنه أصبح كاتباً. منذ عاد إلى بيروت يمشي مسافات طويلة. لا يمكن أن يعيد اكتشاف المدينة في السيارة، يجب أن تكتشفها قدماه وعيناه معاً. يمشي دوماً كأنه يمشي على غيمة. ويسأل: هل ما أراه حقيقيّ؟ هل كل هذا القبح الجديد حقيقيّ؟ مَن باع البحر لأصحاب الواجهات العريضة في الأبراج المستوردة؟  كيف لا يكون سكّان هذا المكان كلّّهم مخرجي أفلام عبثية؟

تدهشه أفلام الواقع البوليسية التي تعرضها شاشات التلفزيون وصفحات الجرائد، جواسيس وسيارات مفخّخة وطائرات استطلاع تهيم فوق مقهاه المفضّل والكورنيش البحري الذي ترك عالمه الأميركي لأجله. يقول إنه عاد لا يخاف، بعد ما عاشه خلال ثمانينات القرن الماضي في بيروت والجنوب. ويقول إن صدمة فَقْد أصدقائه في ساحات معارك وهمية جعلته قادراً على تحمّل أقوى الصدمات. يقول أيضاً إن الحياة هنا تسمح له بتحقيق حلمه بأن يصبح روائياً. أذكّره بوعده، لكنه لا يجيب. وعدني بأن يحكي لي قصصه لأكتبها ثم قرّر منافستي. وأنا لا أعرف تحديد مشاعري نحوه. لا أعرف سبب لحاقي به. لكنني أسعى دوماً إلى معرفة أخباره وأحبّ أن أستمع إلى قصصه عن المنفى الذي يقول إنه صنعه وأعطاه معارفه كلّها وأوجاعه كلّها. ويقول أيضاً إنه فخور بأوجاعه. أحاول أن أنساه، ولا أستطيع. أحاول ألّا أحبه، ويزعجني أنني لا أستطيع أن أكرهه. بالرغم من هدوئه يحبّ المواقف المدوّية، يختفي فجأة من مكانه المتوقّع لأراه في مكان آخر.  

لا أعرف بطلاً روائياً غيره، وكلّما تجاهلتُه نَبَت في أحلامي. البارحة ليلاً وصلتْه رسالتي الهاتفية. لا أتوقّع أن يردّ عليها. ولا يمكن أيضاً أن أتوقّع أياً من ردود أفعاله. لا أعرف إذا كان قد اختار البقاء في بيروت أم هرب من الفوضى إلى بساتين قريته الجنوبية. وحين أظنّني أعرفه جيداً، وحين أقنع نفسي بأنني أعرفه جيداً وبأنني درسته خلال أعوام طويلة، يصفعني جهلي. وأكتشف أنني أعرف شخصاً آخر يشبهه، وأنه ليس شخصاً واحداً بل هو مجموعة أشخاص تعيش في جسم واحد، حياة واحدة هادئة. لا أفهم هدوءه. كيف يمكن أن يكون هادئاً شخص مثله؟

لم يردّ على رسالتي الهاتفية ولم يظهر في المقهى البحري كعادته. لم يتصل. هرب بطلي مني. يصرّ على أن يتحوّل إلى بطل رواية بوليسية. طردتُ خوفي عليه، لن أخاف عليه من وحدته. وإذا أراد السفر، فليسافر، أميركا تتحمّله. أما أنا، فلا. لن أنتظره لأستأنف الكتابة. سأتخيّله، عندها فقط يصبح حقيقياً.

المجلة الالكترونية

العدد 1077  |  آب 2024

المجلة الالكترونية العدد 1077