تحميل المجلة الاكترونية عدد 1077

بحث

غموض

لا تمشي. حاول ألا تمشي. حاول في شكل عام أن تحدّد عدد رحلاتك إلى الخارج، خارج البيت. ربما دهستكَ سيارة أو وقع على رأسك حجر ضخم من بناية تُهدم. يوجعك فعلُ الهدم، بالرغم من أنك حاولت هدم ماضيك. وفي كل زقاق من أزقّة بيروت تهدم بنايات. لم تفكّر في مشاهد مثل هذه قبل أن تعود من أميركا. أنتَ بطل رواية لم تكتب بعد. أنت بطل رواية تكتب كلّ يوم. يجب أن يكتبَ كلّ منا روايته، نحن سكّان الحاضر الغريب، الشهود على أن الماضي لا يُمحى ولا ينقطع، الماضي مستمرّ، وقد يستمرّ مشوّهاً. لذا يجب أن نروي نسخنا المختلفة منه. ماذا يعني أن يكتب كلّ منا روايته؟ هي محاولة لفهم الرواية أولاً ولفهم الاختلافات بين رواية وأخرى وللبحث عن نقاط التقاء بينها، ولمواجهة روايات الخارج المخترعة عنا، وهي مواجهة طالب بها كثيرون.

أنا الراوية أطلب منكَ أنت بطلي منذ عودتك من أميركا أن تكتب روايتك. أريدك أن تكتب رواية مختلفة عن روايتي. ناقشني يا أخي، اشتمني إذا أردت. ولا توافق على اقتراحاتي كلّها وأفكاري كلّّها. لكن نفّذ أوامري المتعلّقة بسلامتك. أمرتك بألا تخرج من الشقة، فربما اختنقت في المصعد لأن الكهرباء إذا لم تكن «مقطوعة» فهي تنازع ولا تستطيع تحمّل المصعد خلال نزولك من الطابق الثامن. وأنا لا أريد أن تختنقَ في مصعد، لا أريد لك نهاية عبثية. أنا الراوية أخاف عليك، وأتخيّلك في «مطبّات» مخيفة، أراك تحترق في «لوبي» فندق لأسباب مجهولة، وأرى سيارة تدهسك لأنك تمشي بهدوء. احتمالات أن تنهيك كوارث من هذا النوع عالية جداً في لبنان، هذا إذا لم تقرّر إسرائيل أن تسحق قبور أجدادك وتسحقك مع أهلك الذين عدت من أميركا لأجلهم. وعليك أيضاً أن تنتبه من «الفتنة الداخلية»، فربما شكّت أظفارها في لحمك أو عضّتك بأنيابها. ألم آمرك بألا تخرج من البيت؟ حاصر نفسك بالكتب واغرق فيها. انسَ الحاضر، اخترع لنفسك ماضياً ومستقبلاً أو اقبل بما اخترعته أنا لك، لكن لا تقترب من الحاضر وإن جاءك في كتاب، لأنه مزعج في الكتب أيضاً. وتذكّر أن تعلّقي ببيروت يدفعني إلى نقد العيش فيها. أنا لا يمكن أن أهاجر إلى أميركا كما فعلتَ أنت. أنا على الأقل لم أهرب مثلما هربتَ، ولن أهرب.

تركتني اليوم، لم تنصت إلى إنذاراتي. قلت إن صديقة سبانية التقيتَها في المقهى تركت عالمها في مدريد لأنها أُغرمت بمدينتنا وبالحياة فيها. عرفتُ أنك استجوبتها، وحاصرتها بالأسئلة لتفهم سبب بقائها هنا، ولم تفهم. هي نفسها لا تفهم علاقتها بالمكان الجديد الذي تقول إنه اختارها قبل أن تختاره. وقد نقلتْ حياتها إليه. لا تحاول إقناعي بالكتابة مجدّداً عن المكان، فكلّما كتبت عن هذه المدينة ازداد غموضها.

المجلة الالكترونية

العدد 1077  |  آب 2024

المجلة الالكترونية العدد 1077