'ما يفوق الوصف'
ألبست الشاعرة سوزان عليوان ديوانها الجديد «ما يفوق الوصف» معطفاً من قشّ قبل أن ترسله إليّ. يفيض رقيّ إحساس الشاعرة قبل أن تقرأَ كلماتها، وحين تقرأها تتأكد أنكَ كسبتَ وقتاً ذهبياً. أتخيّلها كلّما اكتشفت ديواناً جديداً لها أنها خاطت الغلاف والحروف والنقاط، وأنها زارت أوراق الديوان مئات المرات ورقة ورقة. ثم أَدخلُ عالم سوزان. في «ما يفوق الوصف» تعانق حياةٌ سابقةٌ الحاضرَ. وربما كانت مدن هذه الحياة السابقة ووجوهها وصفحاتها هي نفسها مدن الحاضر ووجوهه وصفحاته، لكنها تغيّرت في ديوان سوزان الجديد، أصبحت أكثر وفاء لأدوار البطولة التي تؤديها في الشعر. وأصبح الشعر أكثر أصالة. أصبح شعراً خالصاً.
كلمات قليلة قصيرة مختارة بعناية مرتبة جميلة موجعة بليغة تُدخل قارئها حالة الحزن الذي يصاحب اكتشاف صورة ساحرة أو مشهد مبتكر أو ذكرى أو صوت من ماض جميل. تركّب كلماتٌ قليلةٌ مشهداً سينمائياً ملوّناً بألوان العتمة والخيبة والأمل. تسبق الصورُ المتخيَّلة الكلمات. وتقطيع هذه الصور مشوّق ورومنسي. هكذا يبرز خلف بهجة الشعور بالحب حزنٌ يليق بشاعرة، حزن صادق يظهر في المرايا الكثيرة الموزّعة على القصائد.
لقد ازدادت شعرية القصائد بعدما «أسقطت» الشاعرة عن «الشعر هالته». تخلّى عن بطولاته في العالم الخارجي، لكنه لم يأسر نفسه داخل التفاصيل الشخصية، فالتقى فيه الإنساني بالشخصي الحميم. اختارت سوزان الحب بطلاً في ديوانها الجديد، الحب المستحيل الذي لا يخفت. لكن ليس الحبّ الضائع مرّاً كل الوقت، ثمة حلاوة ما في الدموع التي يسقي بها هذا الحبُّ الشوقَ. ربما هي حلاوة الإحساس بالعذاب بسبب الحبيب ولأجله. ولولا الفرصة الفائتة لما كان الشعر في أصفى لحظاته.
«وهل كان كلّ ما مضى بتفاصيله الصغيرة العابرة سوى انتظارك؟»
ترسم الشاعرة المشهد وتتحرّك فيه كأنها بطلة فيلم صامت. نتخيّلها صامتة، لا تحرّك شفتيها، تكتفي فقط بتدوين الكلمات. تعيش المشهدَ وتكتبه في الوقت نفسه، يتحرّك معطفها، تتحرّك برشاقة ولا تتوقف عن الكتابة. تبحث بهدوء عن عبارات تحوّل صمتها الخاص شعراً: «قبعة ساحر»، «الوحيد كشجرة»، «كأننا أتينا بعدنا». تفاجئ العباراتُ والصورُ ببساطتها وباللعب الراقي والناجح باللغة.
في «ما يفوق الوصف» الدنيا كلّها مساحةٌ بيضاء تفصل بين بطلة تلفّ قلبها بـ«ورق هدايا» وتقدّمه للشِعر وبين بطل غامض. بينهما أيضاً قمر ومرايا وموسيقى الكلمات والماضي المستمرّ.
من قصيدة «كيف»:
كلّما فكّرْتُ في تركِكَ،
...
أتذكّر كيف
لسنوات كابرْنا
قبل أن نقف
وجهاً لوجهِهِ
وكأننا للتوّ نتعارف.
إلى الموعد الماطر
كيفَ سبقتُ السماءَ
والطريق
تملؤني الفراشاتُ
وكأنَّني في العشرين
كيف في ومضة مضى المساءُ
في زاوية المطعمِ الذي
كلّما مررتُ بشارعِهِ الطويل
شيءٌ في روحي كهاويةٍ
نهاني عن المفارق.
الأكثر قراءة
المجلة الالكترونية
العدد 1078 | تشرين الأول 2024