تحميل المجلة الاكترونية عدد 1077

بحث

النفق 2

النفق طويل والهواء داخله ثقيل. يجعل الهواء في النفق التنفّسَ تجربة محسوساً بها. التنفّس هنا ليس «تحصيلاً حاصلاً» كما نقول. نفكر فيه، نحن أهل النفق، ونحسّ به، وهو لا يريحنا. أظنّه نفقاً جماعياً وأظنّ الإحساسَ به مشتركاً بين كثيرين من سكان منطقتنا العربية العظيمة. لست وحدي في النفق. لست وحدي في صيف خريفي يخبّئ عواصف غاضبة.

كنتُ في المستشفى، في نفق أقصر وأقل عتمة حين اكتشفت الجريمة الإسرائيلية، جريمة أسطول الحرية. هذه المرة لم أهرب من الشاشة. هذه المرة لم أشغل نفسي بقراءة صفحة في كتاب أو بالكلام مع ابني أو بتغيير المحطة التلفزيونية. هذه المرة تنازلنا وتفرّجنا على فلسطين. وربما جذبتنا الفرجة لأن الصورة هذه المرة مختلفة. القتلى أتراك والأسئلة أكثر غموضاً من العادة.

يجب أن نعترف بأننا نهرب يومياً من مواجهة الظلم الذي يتجرّعه الفلسطينيون، من مجرّد التحديق إلى أشكاله المتعددة. نهرب من صورة في جريدة، من لقطة على الشاشة، من لمحات سريعة من مسلسل ممارسات الاستعمار الإسرائيلي. نهرب من جرائم القتل اليومية التي تُرتكب بحقّ الفلسطينيين ومن جرائم سرقة التاريخ وتزويره وتغيير الجغرافيا بعد الاستيلاء عليها.

كيف يمكن تجاهل الاستعمار التاريخي الأبشع والأكثر تعقيداً؟ هل كان علينا أن ننتظر الهجوم على أسطول الحرية كي يعيدنا إلى مسؤوليتنا الإنسانية تجاه قضية عادلة هي القضية الفلسطينية بغض النظر عن الانقسامات والاصطفافات السياسية. هذه الانقسامات والحسابات تحوّل الانتباه عن مستقبل أطفال يتحمّلون ذنب ولادتهم في بلد شارك العالم كلّه في سرقته، ومستقبل تلاميذ يشهدون صباح يوم مدرسي اختفاء مقاعدهم الدراسية وانهيار جدران صفوفهم وطفولتهم.

يجب أن يتحمّل كلّ منا مسؤوليةً إنسانيةً تجاه ظلم يصفّق له مَن يدّعون احترام المبادئ الإنسانية والتمسّك بها في أساليب عيشهم وحكمهم.

الإحساس بالظلم موجع والنفق طويل، لكن مَن هم داخل النفق يبصرون ما لا يبصره مَن يتنفّسون بحريّة خارجه. يتنفّسون بحريّة لكنهم لا يرون الحقيقة. هم ضحايا منطق القوة الصهيوني المسيطر عليهم والذي يجرّدهم من إنسانية يدّعون أنها مذهبهم. 

هيلين طوماس، السيدة الأولى للصحافة الأميركية التي حاربت من أجل دخول الصحافيات البيت الأبيض حيث واكبت خلال خمسين عاماً 10 رؤساء من جون كينيدي إلى باراك أوباما، تحمّلت المسؤولية وخاضت معركتها الأخيرة حين تجرّأت على أن تقول للإسرائيليين إن «الشعب الفلسطيني محتلّ وإن الأرض أرضه». لا بد أن هيلين كانت تعرف الأثمان التي ستضطر لدفعها بسبب تصريحها، وقد دفعت أثماناً باهظة، لكنها تحمّلت مسؤوليتها الإنسانية وقالت ما يصعب قوله في عالمنا الغريب هذا.

المجلة الالكترونية

العدد 1077  |  آب 2024

المجلة الالكترونية العدد 1077