تحميل المجلة الاكترونية عدد 1077

بحث

صخب

كان خطيبها كما يحلو لأمها أن تسميه شاباً طويلاً عريضاً جميلاً وكان في تلك الليلة يبكي. اقتربت ثريا منه، ولأنها تعرفه ولا تعرف نفسها لم تنطق. كان عليها ألا ترى دموعه. قميصه المفتوح قليلاً لم تعرفه، لعله اشتراه في الفترة التي هربت خلالها. تترجل من سيارته وتدخل حديقة المبنى. في ثوب طويل شفاف كان عليها أن تستقبل السهرة. تدخل حديقة المنزل حيث رأت رجلاً قرروا أنه مخبولاً جالساً على الأرض وجميعهم من حوله يقهقهون. لا تفهم المشهد. إنه الرقص الذي لا تفهمه. لذا كان خطيبها الذي يرافقها الآن يتهمها بالحنين إلى الملل. إنها الحفلة الثلاثون التي يدعونها إليها. في الحديقة الخلفية لمنزل صديقها حيث كانت وحيث جلسوا، كان ليلاً وهواءً قذراً وكانوا سبعة. الطاولة التي جلسوا حولها تهتز لوعورة الأرض من تحتها، الابتسامات لا معنى لها والكلمات أيضاً. تكاد سلا تصدق أنها بينهم، أنها كانت بينهم وأنها ستكون. لو أنها تراهم في دهشة، لو أنها لا تراهم. الوجوه نفسها تقهقه. كان عليها أن تتحرك أوتصرخ أو تبكي استنكاراً لكن الموسيقى التي ترقص لها أشجار المبنى تحوّلها إلى مفترسة تود الانقضاض على اللطفاء. فهي، ثريا تكره اللطف الشديد ولا تفهمه. إنهم يرقصون وهي تبحث عن صديقها أو خطيبها كما يحلو لأمها أن تسميه في عتمة المكان وصخبه، لم تره منذ نزلا من السيارة متجاهلة دموعه لأنه علّمها أن تتجاهل دموعه، باكية.

رائحة شعرها جميلة، تحسها في الهواء وأصابع يديها النحيلة تضغط على حقيبة يدها. تدخل المنزل الذي رأت خطيبها فيه للمرة الأولى منذ خمسة أعوام، منزل والديه حيث غرفته وأشياؤه. تسمع صوته الآتي من غرفة المكتب كما يسمونها، صوته الذي اشتاقت إليه في هروبها الأول دون أن تشتاق إليه، هو. ثريا أدمنت الهروب، فيه تجد معنىً وحياةً. إنه صديقها منذ خمسة أعوام. وهو بالقرب منها الآن، هناك في غرفة صغيرة بابها مقفل. إنه على بعد قريب. تخشى مواجهته بحاجتها إلى الهروب لأنه سيواجهها بالأعذار نفسها وبحبه وبقدرة غيابها على جعله حزيناً بل الأكثر حزناً. تسترق أفكارها النظر إليه ولا تراه. تعرف أنه في الداخل، يحدث جلبة من داخل الغرفة وراء الباب البني الخشبي العريض، تسمع صوت يديه وأشيائه. تفضل أن تكون وحدها بطلة المشهد لكنها تعي ضرورة دخولها إليه وإنذاره بهروبها القادم قبل أن يأتي أصدقاؤهما ويكتظ المشهد والغرفة بهم. أمامها في إحدى زوايا قاعة الاستقبال حيث يجلس عدد من الضيوف بينما يجلس آخرون في الحديقة الخلفية الواسعة، تنظر إلي امرأتين تبدوان في منتصف الخمسين، جالستين على طاولة مجاورة لطاولة زجاجية كبيرة معروضة في وسط القاعة.

كانت مراقبتهما سهلة ومسلية والتنصت إليهما أجمل ما في سهرتها. تأكلان بنهم وتمسحان بقايا الطعام بأسى ولا تصغيان للأصوات من حولهما منهمكتين في مضغ الطعام. كانت النحيلة بينهما تتحدث بصوت منخفض وكان حديثها الذي كادت ألا تستطيع ثريا فهمه يشبه الكنزة الحمراء التي ترتديها والمزينة بأشجار سوداء وأغصان. تنظر ثريا إلى عينيها الكبيرتين الغارقتين في كحل أفسدته كثرة الطعام ولا ترى شفتيها. لا شفتان في وجهها، فقط عينان وأنف وذقن تلي الأنف مباشرة. في الخارج الهواء بارد على غير عادة في هذا الوقت من السنة. لا قمر في السماء. مؤكد أنها اليوم ستنجح في الهروب. أن تحسه قريباً دون أن تقتحم صمته الكاذب وتمزق حنانه المزعوم وتجفف دمعه ملتذذة أمراً يولد فيها الرغبة في الهروب. بعد أن تهرب، ستغير عطرها ولن تكون لشعرها رائحة جميلة، لن تكون له أية رائحة. ستكون وحيدة تملك نفسها. لا يزال في الداخل مع أوراقه وهي تتنقل بين الوجوه من غرفة إلى أخرى. تقف أمام بابه، تفتحه بهدوء يبتسم لها بحنان مفاجئ، لا تدخل. تحتاج ثريا هروبها الثاني وإن كانت تدرك أنه لن يكون الأخير. لكن كيف تقاوم جمال اللحظة التي ترمي فيها حقيبة يدها الصغيرة الباهظة الثمن وبقايا أحلام غير وردية وتستقل سيارة ليست سيارتها وتختفي؟

المجلة الالكترونية

العدد 1077  |  آب 2024

المجلة الالكترونية العدد 1077