تحميل المجلة الاكترونية عدد 1077

بحث

البطل في نومه الأخير

يعيش بطلي أيامه الأخيرة. أنهكه مرضُه ومرض العالم. سيغيب عن حياتي بعد أيام قليلة. لكنني أستطيع أن أحييه مجدداً، أن أعيد قراءة حياته وأعيد كتابتها أيضاً. ولن أفقد دهشة اكتشافه الأولى. لا أنكر أنني حزينة لأنني سأفقده مرة جديدة. بعد رحيله منذ أعوام طويلة، سيرحل بطلي عن عالمنا بعد أيام قليلة وصفحات معدودة من كتاب حياته الذي أقرأه الآن. لكنني قررت أن أحييه في كتابتي عنه، في الرواية التي استوحيتها من جمال حضوره المستمرّ. فهو ما زال حاضراً في هذا العالم من خلال كلماته. وهو يولد مرة جديدة في كل كتاب يكتب عنه. يليق به أن يكون بطلاً حقيقياً وبطلاً روائياً وصورة ورمزاً.

وصلت معه الآن إلى أيامه الأخيرة. وكانت الموسيقى قد غابت عن حياتي. ثم التقيت بها في كلامه عنها، في علاقته القوية بأصواتها ونغماتها. وحين التقيت أخيراً بالموسيقى  تذكّرت نفسي القديمة. تذكرت حماستي لحزن وجودي ولدت به ووجدتُني مستعدة لتحويله إلى طاقة غريبة. تحمّست للكتابة والعمل والحب. رافقتني الموسيقى خلال أعوام الحماسة الأولى ثم اختفت. فقدتها في صراعي مع الوقت. هذا الصراع تركني سجينة غيبوبة طويلة، فما عدت قادرة على أن أحصي الأيام الهاربة أو أعرف أول النهار من آخره. ثم جاء بطلي ليعيدني إلى الموسيقى، إلى ألبومات أعادت تلحينها جدران غرفتي. أعادني بطلي إلى الموسيقى، ودفعني إلى القتال لاستعادة سكون وحدتي الجميل. وفي أوقات وحدتي القصيرة التقيته وأعدت اكتشافه. وأنا لا ألتقيه خارج الكلمات. لا ألتقيه في المقهى أو في الشارع أو في المصعد لأنه تحوّل إلى كلمات صارخة بصمْتٍ. الآن تركته في بداية النهاية، أقرأ عن أيامه الأخيرة حين كثّف مشاريعه وحاول أن يقاوم المرض كي لا يتوقف عن الكتابة. ثم أعيد كتابة أيامه هذه لأكتشف أنها في كتابتي تشبه بدايات حياته، فالمبدع يعيش أيامه كلّها كأنها أيامه الأخيرة.

عدتُ إلى بطلي وتخيّلت لقاء أخيراً جمعني به. هو بطلي الآن، أعيده إلى الحياة في الكلمات حيث النهايات بدايات جديدة. أتأكد من أنه يتنفّس في كلماتي وأن قوته الجسدية تعود إليه. أرسم له يوماً عادياً. أرسم بالكلمات لحظة نهوضه من النوم. أطارده وهو يستعدّ لنزهته الصباحية، وهو يشرب قهوته في الثانية عشرة قبل أن يتناول طعام الغداء. ها هو يقرأ الآن ويستمع إلى موسيقاه، ويصوّر مشاهد من فيلم وثائقي عن المطرودين من التاريخ. ولا ينام. كيف أكتب نومه؟ يصعب عليّ أن أتخيّله نائماً قبل نومه الأخير. أتوقف عن صناعته ثم أكتشف أنه هو الذي يصنعني، هو الذي يحدّد أوقات انكبابي على كتابته وأوقات نزهاته بين الكلمات. الآن قررت وسأنفّذ قراري. بعد أن أعيش أيامه الأخيرة في كتاب مذكراته، سأعيده إلى الحياة في رواية أقاوم عبرها نهايتي الآتية.

المجلة الالكترونية

العدد 1077  |  آب 2024

المجلة الالكترونية العدد 1077