تحميل المجلة الاكترونية عدد 1077

بحث

النفق

الكلام متعب وتأمّل الوجوه أيضاً. الكلام مكلف، أدفع ثمنه يومياً من وقتي. أحسد هؤلاء الذين يقدرون على الصمت وعلى تجاهل الوجوه وفضول التحديق إليها. البارحة عرّضتُ نفسي لهجوم من مئات الوجوه. لا أنكر أنني أحببت بعضها في لحظة ما، لكنها أتعبتني. الابتسام أيضاً متعب ومكلف. استهلاك المشاعر يضيّع عليّ فرصة الاستفادة من غموضها في الكتابة. والأسئلة تبوخ بين البشر. الأسئلة تحتاج من مكتشفها إلى أن يجلس مع الأشياء ويعانق صمتها، وأن يطوّر في وحدته علاقته بها. فالوحدة أروع الحالات. لكن س.ر السبعيني لا يطيق الوحدة. 

أعدت البارحة اكتشافه في احتفال عائلي، وهو أحد الأشخاص الذين سكنوا طفولتي. تأثرت به فهربت من حياة تشبه حياته. ما زال أنيقاً وما زال قادراً على ابتكار الأكاذيب السريعة، أكاذيب ينتهي تأثيرها بانتهاء زمن حكايتها. هي قصص لا تؤذي أحداً، لكنها قصص غير حقيقية، قصص لم تحدث في الواقع.

لم يحب س.ر يوماً أن يكون وحيداً. وربما ما زلت لا أعرف حقيقةً ما أحب وما لم يحب. الأعوام الطويلة التي عرفته خلالها لم تقل لي عنه أي شيء محدد، لكنني أخاف عليه من وحدة قسرية يفرضها الاقتراب من النهاية. أتساءل دوماً: ما الذي يشعر به المتقدمون في السنّ حين يعرفون أن الخروج من نفق الحياة بات وشيكاً؟

عرفتُ س.ر منذ صغري. عرفت أنه شجاع ولم أتأثر بشجاعته. تعرّفت إلى صباه في صور قديمة. كان أنيقاً وسيماً قبل غربته الأولى. غادر بيروت وعاد إليها ثلاث مرات. طالما اعتبرته فرداً من العائلة، أستاذاً أو والداً أو صديقاً يمكن أن تُكتب حياته في رواية.

لا أعرف ما الذي يدفعني إلى الإحساس بأنني أمتلك حياته أو أنه يحقّ لي أن أكتبها. وكتابة حياته أحد مشاريعي المؤجلة. لكنني الآن أؤجل التفكير في ما أصبحت عليه حياته. أخاف من غيابه الأبدي ثم أسارع  إلى التأكد من أنه ما زال هنا. أعرف أنه أراد أن يكون مَن لم يكنه يوماً. رسم صورته في سن مبكرة. رأى نفسه بين الجماهير، لكنه لم يستطع أن يجمع أحداً حوله.

طمح إلى كل ما لم يعرف تحقيقه. ولعلّه لم يفكر يوماً في أسباب فشله في تحقيق بعض من طموحه. ولم يحاول يوماً أن يشكّ في اختياراته أو في تهّوره العجيب الذي يأتي بعد تردّد. أراه ولا أراه، أحاول أن أحبه فقط، أحاول أن أحبه من دون أن أراه. أقمع أسئلتي حول علاقتي به وافتتاني بتناقضات شخصيته.

أضعه في المكان المظلم، المكان الذي لم تجرؤ بعد كلماتي على أن تطأه. لا بأس، يأتي يوم أراه فيه. يأتي يوم يخرج فيه من عتمة رفضي لخلل واضح في شخصيته لا يد له فيه أم أنه مسؤول عنه، لا أعرف. أعود إلى أوائل القرن الماضي لأتخيّل أمه النازحة من القرية إلى المدينة، وأجمع ملامح شخصيتها من قصصه القديمة عنها. ألوم جبروت أمه على الخلل في شخصيته ثم أسامحها. وأسامحه على ضياع حياته وعلى خوف جديد لمحته البارحة في عينيه.

المجلة الالكترونية

العدد 1077  |  آب 2024

المجلة الالكترونية العدد 1077