تحميل المجلة الاكترونية عدد 1077

بحث

عن 'قلب مفتوح'

طالما ظننت أننا نكتب لنقاوم فكرة الموت، لنقاوم الغياب الذي نجبر عليه مثلما أُجبرنا على المجيء إلى هذا العالم. أكتب لأن الزمن الذي أمضيه خلال الكتابة هو بالنسبة إليّ الزمن الحقيقي، زمني الذي أمتلكه، الزمن الذي يسمح لي بالقبض على الزمن، فأتحكّم به، أمتلكه، أستثمره. لماذا نكتب؟ سؤال يتكرّر لكنه يفاجئنا كل مرة، والإجابة عنه تبقى واسعة وقابلة لأن نغيّرها وتغيّرنا.

كتب الشاعر عبده وازن حياته في كتابه «قلب مفتوح». كتب حياته بعدما أخطأه الموت. سرد الشاعر نفسه. فتح نفسه وكتبها. فتح نفسه ليلامس أعماقها قبل أن يكتبها. بعدما أنقذته عملية «القلب المفتوح» عاد من الموت ليكتب ما لم يكن قد كتبه بعد، ليفتح قلبه مرة ثانية.  فكتب كل ما يمكن أن يكتبه شاعر عن حياته وكل ما يمكن أن يخفيه شاعر عن حياته. تمسّك بسلاح الكتابة لخوض معركة ضد الموت وللتمسّك بحياته الجديدة، فكتب كتابة جديدة، هي كتابة تسابق الموت. إستسلم الشاعر للسرد، لجمال البوح، خصوصاً حين يكشف مشاهد وصوراً من سيرة السارد.

قرر أن يستغني عن «غموض» الشعر وإن كان لم يستغن عن الشعر في سرده. إستسلم أيضاً للخفّة التي يزرعها سرده في النفس. هذه الخفة تتسلّل إلى قارئ السرد أيضاً. فكيف يمكن أن تكون ممتعة القراءة عن شفرة تحلق شعر مريض يستعد لمواجهة الموت؟ المعركة التي يخوضها المريض معركته، لكنه مستسلم فيها إلى محاميه.

وقد خاض الشاعر المريض المعركة مع الموت بالخضوع للطبيب بعدما سلّمه حياته كلّّها، الماضي والذكريات وخطط المستقبل ويتمه ويتم ابنته المحتمل. وبعد نجاته أنقذه مجدداً تحليل الذاكرة وسرد صورها. وهو سرد غلّف الصورَ بقطع من الـ «نايلون» الشفاف، صور القديسين وصور الحبيبة الأولى والعشيقة الأولى وصور المسلّحين «الكومبارس» في حرب قذرة.

أعاد وازن كتابة حياته، فكتب طفولته المستمرّة، بدأ من هناك، من أول الحكاية ليستعيد ذكرياته الأبعد.

عاد أيضاً إلى أحاسيس لم تغادره، فهي تمثّل أساس وجوده كإنسان وشاعر، كإبن وأب، كالإحساس باليتم الذي لا يمكن التخلّص منه والإيمان بالأحلام والملائكة وبالقراءات والأفكار التي تسحره لقهرها الأنانية في الإنسان وتعلّقه المادي بالحياة، و«ألم الكآبة الذي يفوق الألم».

السرد شفاف باستمرار، كأنه مغلّف بدخان، كأن الصور معلّقة بين الغيوم، إلا أن ثمة لونين يظهران بين الصور والكلمات: الأسود والأبيض.

فالأسود هو لون الليل، لون رغبة «بطل السرد» الأولى، لون الكآبة في عينيه. أما الأبيض، فهو بياض كآبته وصمتها، وهو بياض الورقة قبل أن يلوّنها حبر الكتابة، وبياض المستشفى والمرض الذي أطلّ منه عبده وازن على حياته وعلى موته أيضاً.

والموت في «قلب مفتوح» حاضر في كل كلمة، لكنه حضور أقل قسوة من حضوره «غير المألوف»، فهو موت يعانقه إيمان خالص لأنه إيمان قلق.

المجلة الالكترونية

العدد 1077  |  آب 2024

المجلة الالكترونية العدد 1077