مطر من الأسئلة
تتراءين لي كثيراً هذه الأيام . ويُهيمن وجهك على أحلامي أطول مما تحتمله طبيعتي كذكر. فأختبئ خلف الجريدة الصباحية مداريا فضيحتي عن زوجتي وعن الأولاد، ومُلقيا بالدهشة على اللاوعي أحيانا وعلى نظريات «أزمة منتصف العمر» أحيانا أخرى، وباحثاً عن المزيد من الأحلام غير المحققة التي قد تحملها ضدي سنواتي الخمس والأربعين فلا أجد سواك.
«هل انتِ سعيدة؟»
هل أصبح لديك أطفال؟ وهل استعنت بأم بديلة كما كُنت تُرددين بشقاوةٍ لذيذةٍ خوفا من الـ«سترتش ماركس»؟ أم أنكِ خضعتِ لمساومات «المُتاح» في سبيل الحصول على الطفلة التي طالما تمنيتها؟ تلك التي تملك وجها ملائكيا كوجهك المتواري بخجل وشيء من الحزن خلف مجموعة أطفال العائلة المبتسمين في صور طفولتك. تعرضينها بفخر زاعمة أن تحت الغرة الطويلة التي تغطي جبهتك عينين شقيتين ومليئتن بالشيطنة. لن تزعجك كما كانت تزعج أمك لأنك بعكسها تعرفين معنى أن نولد بروح يسكنها الشغف.
«لماذا ترتعب الأمهات من الطفلات اللاتي يسكنهن الشغف؟ تسودُّ وجوههٌن ما أن يُبشّرن بأنثى متعللات بعذر «الذكر» الكاذب والقديم. و يبقين متوترات ما أن توضع في أحضانهن تلك الكتل الطرية والهشة. فيمسحن على جبينهن الصغير مزيحات عن عمد غرة تحجب وعدا بالسكينة أو بالعذاب. ثم ينمن مرتاحات البال ما أن يقرأن في الأحداق المستديرة معالم البلادة.
أما زلت تزيحين غرتك بعصبية عندما يجرجرك أحدهم من منطقة الجدل الآمنة التي تحفظين شعابها إلى حديث حميم وحقيقي عن ذاتك؟ فيرتجف صوتك فجأة وتجيبين :
«ليش تسأل؟»
«ليش أسأل» بعد خمسة عشر عاماً من النسيان؟ كما اسميه ومن الغدر كما أعرف انك تسمينه.
هل سامحتني؟
أما زلت تحتفظين بخاتمي؟
أما زلت تقاتلين حتى لا يتجاوز وزنك الخمسة والخمسين كيلو غراماً؟
هل عثرت على قلب تزورين فينيسيا معه، أم انك ألغيت ايطاليا من بوصلة وعودك؟ أو ربما ألغيت الحب من بوصلة ايطاليا وذهبت مع مجرد محرم؟
أما زلت تشربين الشاي بالحليب صباحاً وتأوين إلى الفراش منذ العاشرة كدجاجة ؟»
هل لا تزال تضايقك تلك القريبة المجنونة لأنك تلبسين أقصر من المسموح وأطول مما تشتهي الغانية المتحفظّة بداخلك؟ أم تراك بدأت بالترويج لمفهوم الستر لتخفي مجموعة الكيلوغرامات التي وعدك بها «ميتابولزم» المرحلة العمرية الجديدة، ضاربا عرض الحائط بمفاهيمك الفلسفية الأخرى حول العمر، والسنين التي لا تتجاوزنا إلا إذا سلمناها مقاليد «الدهشة»، وتركناها تحصرنا في حيز المألوف والمقبول.
«بغض النظر عن الرقم الذي تحمله ورقة التقويم المعلقة على الحائط هذا المساء نحمل في داخلنا تقويما مختلفا يقيس سنواتنا بالأحرف لا بالأرقام، تقول الورقة الأولى من شهره الأول:
اليوم أنت أنت.
وتقول الورقة الأخيرة من شهره الأخير:
اليوم أنت أنت».
هل من الطبيعي أن نتذكر فجأة حديثا سمعناه قبل أكثر من خمس عشرة سنة مرة واحدة فقط فيرن في آذاننا صافيا ونقيا كيوم سمعناه للمرة الأولى، ونرغب بلمس الشفتين اللتين تقولانه تماماً كما رغبنا في المرة الأولى، ونتخاذل عن ذلك تماماً كما تخاذلنا في المرة الأولى؟
ماذا عن الوحوش في تاريخك هل هدأت أخيراً ؟ أم انك لا تزالين تستجدين الطمأنينة من العابرين بلا فائدة؟ ربما لو وجدتها لسامحتني فالمطمئنون لا يحملون الضغينة، أليس كذلك؟
هل تشتمينني عندما تتذكرينني؟
هل تتذكرينني؟ أنت صاحبة الذاكرة التي لا تغفل ولا تغفر؟ تحسدينني على نعمة «الالزهايمر» المبكر في الوقت الذي تصطلين فيه بنار الأحداث التي تعيد نفسها بلا توقف. لعلها تعويذتك التي ألقيتها عليّ على لسان «صديق مشترك» قبل أن تستسلمي لأمر الرحيل الواقع وتنصرفين تجرين أذيال الحب والهزيمة.
«فلتمنحك الذاكرة ما تستحقه من العقاب»
قالها بلا مبالاة ثم انصرف إلى لعبة «البلوت» التي كان قد بدأ يخسرها.
ويبدو انك تعودين. تحيكين في صدري كذنب. وتهيمنين على أحلامي غير عابئة بالمرأة المستلقية بجانبي منذ أكثر من عقد من الزمان . تستمطرين لا وعيي فتنهمر علي الأسئلة بلا توقف. واعرف انك الآن تستريحين وأعرف أنني الآن قد بدأت أتعب.
شاركالأكثر قراءة
المجلة الالكترونية
العدد 1079 | تشرين الثاني 2024