تحميل المجلة الاكترونية عدد 1077

بحث

قراءة الذاكرة

كنت في الثالثة عشرة عندما قيل إن الحرب اللبنانية انتهت. تضجّ ذاكرتي بصور الأيام الضائعة في مدخل شقتنا وبأصوات المعارك العبثية وألوان القنابل في سماء بلا نجوم. تساهم الذاكرة في صنع الهوية، في صنع الأنا التي أزيّنها دوماً بعلامات استفهام وأحييها بالشك. أدّعي أنني عشت الحرب اللبنانية. كانت الحرب بالنسبة إليّ أن يتحوّل يوم عادي من أيام المدرسة، يوم في حياة تلميذة صغيرة، إلى فيلم رعب. الفوضى في المدرسة هي أكثر ما أذكره. فلن أقول إنني عرفت الخوف. لم أكن بعد قادرة على فهم الخوف الذي عرفته فقط في المعارك الأخيرة. أتذكر معارك ثمانينات القرن الماضي من دون أن يرافق الذكرى أي شعور بالخوف.

ما أريد قوله هو إنني عشت الحرب، وحفظت أسماء المعارك وأسماء وحوشها، من «أبو ليلى» إلى «أبو الليل» إلى «أبو خشبة»، أسماء سكنت مخيّلاتنا في ليال قاتمة. ما أريد قوله هو إنني عشت الحرب ثم اكتشفت لاحقاً بعد انتهائها وبعدما كبرت في السن أنني لا أعرف تماماً ما جرى. اكتشفت أنني لست قادرة على رسم تفاصيل الأحداث: ماذا حدث بالضبط؟ ولمَ حدث ما حدث هنا أو هناك، في هذه المعركة أو تلك؟
يحتاج سؤال الـ«لماذا؟» إلى البحث عن الإجابة عنه في روايات مختلفة وفي كتب تؤرّخ للأحداث وتشرحها بالتفصيل. وغالباً ما يضع «الأجانب» هذه الكتب، وبعضها يكون موضوعياً. والأصعب والأخطر هنا هو ما نسمعه من شباب ولدوا بعد انتهاء الحرب، وهؤلاء أصبحوا شبابَ اليوم، المطالَبين بمساءلة الآباء والأجداد أيضاً ومحاسبتهم. فبعض هؤلاء الشباب لا يدرك ما جرى في الحرب، وبعضهم أيضاً لا يعرف على سبيل المثال أن إسرائيل اجتاحت لبنان عام 1982. كما أن بعض منَ سمع عن الحرب أو قرأ عنها، مقتنع بروايات أهله.

ظهرت منذ انتهاء الحرب كتب تاريخية قليلة، تحكي الحكاية اللبنانية منذ أوائل القرن الماضي. تسمح قراءة هذه الكتب بفهم الأطر التي تحضّرت الحرب داخلها. لكن ما كُتب غير كاف. وربما أتاحت رواية الحرب اللبنانية (الرواية الأدبية) لمَن لم يعيشوا الحرب اكتشاف العنف الذي طبع هذه المرحلة من تاريخ لبنان، العنف اليومي والقهر والظلم. تبرز هنا في إطار البحث عن فهم أسباب الحرب أفلام وثائقية لمخرجين لبنانيين شباب يمرّنون الذاكرة على نبْش الأسئلة وتحليل المواقف.
هذه الأفلام تجاوزت العنف المادي، هي أفلام ما بعد الحرب التي تنفذ إلى عمق الحرب من دون أن تعرض مظاهرها. أما روايات ما بعد الحرب، فقد تجاوزت الحرب ولم تتجاوز ضياعها أو الإحساس بأن أرض السلم ليست صلبة. هذه الكتب والروايات والأفلام نحتاج إليها، هي أسلحة ذاكرتنا وهي أيضاً أسئلتها. مرّت 35 عاماً على بداية الحرب اللبنانية. الذاكرة تبني الحاضر. وأهل الحاضر مطالبون بالتمسّك بالذاكرة، بذاكرة ذكية تفيد الحاضر ولا تتوقف عند الماضي. كتابة الذاكرة مطلوبة ومطلوبة أيضاً قراءتها.   

المجلة الالكترونية

العدد 1077  |  آب 2024

المجلة الالكترونية العدد 1077