تحميل المجلة الاكترونية عدد 1077

بحث

في المكتبة

أجرّب الغياب. وأحاول أن أكون في أمكنة الماضي من دون الإحساس بأنني أزورها فقط. أعيش الماضي. ولا يعيش الماضي فيّ. كم تشبهني تلك الفتاة وهي تعبر الشارع إلى مدخل مكتبة الجامعة. وأنا الأن غائبة عن عناصر الحياة التي تآمرت عليّ لتصنع حياتي. سريعاً وجدتُني بطلة حياة جاهزة. لا يهمّ أنني لم أهرب بعد ولم أستنكر خروج الأمور عن سيطرتي، ولا يهمّ أنني أستمتع بالوقت الذي يمرّ سريعاً.
ما يهمّ هو أنني أدركت الآن أنني لم أختر  أياً من الأدوار التي تعيشني. لذا غبت عن البيت والمكتب وعن جريدة الصباح وأفلام المساء والكتب التي أُهديث إليّ. غبت عن خططي اليومية واختبأت في المكتبة حيث يسود صمت حيّ وتختبئ قصص ملوّنة.
في المكتبة الغد متكئ إلى رفّ خشبي والهمس ممنوع. هنا أنا اثنتان. تخرج مني فتاة في العشرين، أذناها ملتصقتان بأذنيّ وعينُها على عيني. أكتب أنا وهي تستمع إلى قصص الغرباء. ليسوا غرباء هؤلاء الذين لا يبالون بمرور الوقت ولا يفكرون في الموت.
أعرفهم جيداً، كنت أشبههم قبل أن يقضم الوقت أيامي. أراهم يتبادلون النظرات والقبلات ولا يعرفون أن قصص الحب التي يطاردونها الآن مشاريع فاشلة. وأراني أتمشى بين الطاولات الخشبية. أمرّر أصابعي الطويلة بين خصل شعري البني. وأبتسم. لم تكن حقائب اليد فخمة، ولم نهتم بألوان الكتب. وكنا مثل سكان المكتبة الجدد نفشل في إخفاء ضحكاتنا وأحياناً نخرج مطرودين من جنة الكلمات.
في المكتبة أعود إلى طفولتي وتعود إليّ قصص كتبتُها بنهايات مأساوية. وثمة قصص لم أكتبها لكنني أديت فيها أدوار البطولة. وكانت قصصاً بلا نهايات.  في المكتبة الحياة حقيقية. أما الحياة في الخارج حيث الشمس تتحدى الأبراج الإسمنتية، فهي ظل الحياة في عالم الكتب.
ثمة حياة أخرى أبحث عنها في بيت أُقفل منذ لم أعد طفلة. لو تتركني ذاكرتي، لكنت سخيفة وسعيدة، ولما تخيّلت مشهد موتي مئات المرات. فما الذي أعادني إلى ذلك البيت الذي أكرهه؟ 
في المكتبة عدت إلى كتابة القصص. أتسلّل يومياً إلى حياة لم أنتبه إلى أن أختارها. كتبت عن الغرفة السرّية في بيت العائلة. كانت قبل أن تسكنها أمي تتقيأ أغراض عمّتي وأشياءها، خزانة شرقية في داخلها ثياب قديمة، طاولة تراكمت فوقها ألبومات صور ورسائل، سرير حديدي دُفنت تحته أسرار  الجدة. بعدما كبرتُ فهمت أن تلك الغرفة لا تشبه أية غرفة في أي بيت في العالم. كانت أمي قد غادرت البيت كله.
حين تحقّق غيابي السرّي اخترت الكتابة، ووجدتني أكتب الغرفة السرّية. في المكتبة أمارس طقس الكتابة السرّية وأختار أن أظهر في شخصيات عدة، ويمكن أيضاً أن أكتب حياة تأخرتُ في اختيارها. 

المجلة الالكترونية

العدد 1077  |  آب 2024

المجلة الالكترونية العدد 1077