تحميل المجلة الاكترونية عدد 1077

بحث

الروائي والأسماء

يسمع الروائي أسماء تطير في الهواء، تخرج من الصحف وتتقاذفها ألسنة قرّاء نشرات الأخبار. يسمع أسماء منفلتة من الوجوه، ويرى وجوهاً بأسماء كثيرة، بلهاء بلا ألوان تصطف حول طاولة، الطاولة داخل الشاشة والشاشة داخل البيت والبيت في بيروت وبيروت خارج التاريخ. ما هو التاريخ؟ يسأل الروائي.
الأسماء لا تليق بأصحابها. الأسماء تستغيث. يساعدها الروائي على العيش في أوراقه قبل أن تحفظها ذاكرة الكومبيوتر. يحفظ الروائي الأسماء، أسماء من التاريخ، أسماء من الحاضر، يضع لها وجوهاً ويحوّلها إلى شخصيات. يمنح أبطاله الأسماء الضائعة، أسماء من حضارات مختلفة. وينبش الروائي أسماء حاولت أن تمحوها أسماء أخرى. يفرك الحروف، فتظهر حروف أخرى. فلا يمحو الحرف «الجديد» الحرف «القديم»، يطمسه فقط، ويكون على الروائي الذكي أن يعيد إلى بعض الأسماء تواريخها.
بدأ كمال الروائي الكتابة في أواخر سبعينيات القرن الماضي. كانت تشغله أسماء زملائه في الجامعة. يبقى الإسم معه، يرافق سهراته مع الأوراق. وحين يلتصق الإسم بذاكرته ينسى تفاصيل وجه صاحبه.
كتب ليفهم شعوراً قديماً، هو شعور بالهزيمة ولد معه. ولم تكن هزيمته تجربة شخصية، فهو ابن مدلّل لأبوين مثقفيْن أعطياه هو وأخته الحنان ودعما رغبته في الكتابة وشجعاه على الوثوق باختياراته. ولم تهزمه قصة حب مبكرة. هزمته الحرب لكنها هزمت الكلّ معه، إلا أن شعوره هو بالهزيمة لم يغادره وظهر في كتبه كلّّها.

يختار الروائي أسماء الشخصيات قبل أن يقرر فكرة الرواية وقبل أن يرسم مخططها. يعيش مع الإسم ثم يرسم له وجهاً ويختار للوجه حياة. «رؤية» صرخ ذلك النهار الماطر. و«رؤية» هو اسم بطلته الجديدة. تخيّلها شقراء قصيرة القامة نحيلة شاحبة الوجه قليلة الكلام. ثم رآها وصدّق الرؤية. «رؤية» نادتها امرأة عجوز. ولم تجب «رؤية»، اكتفت بأن هزّت برأسها وخرجت مع العجوز من محل «شاهين» للآلات الموسيقية. مشى خلفهما في آخر الشوارع البيروتية الهادئة، شارعه المفضّل حيث الأشجار ما زالت في أمكنتها. لم تتحادثا خلال مشيهما بل انطلقتها سريعاً إلى هدف محدد. تبعهما وهو يراقب مشية «رؤية» وشعرها وبنطلون الجينز وحقيبة يدها الجلدية. يتوق إلى التحديق إلى وجهها الهادئ. أحسّ بأنه في إحدى صفحات كتبه أو في حلم يكاد أن ينتهي. إختفت «رؤية» خلف بوابة بناية قديمة. إنتظرها على الرصيف ثم دخل المبنى حين فتح أحدهم الباب الحديد الأخضر. لكنه لم يجد في الداخل أحداً يسأله عن الفتاة الشقراء التي اختفت منذ ساعة.
أيمكن أن تضيع «رؤية» فتترك له بعد اسمها صورة في ذاكرته ينقلها إلى صفحات روايته الجديدة؟ إنتظرها على الرصيف لكنها لم تظهر، وقرر البحث عنها. وقبل أن يبدأ البحث وجدها في أوراقه الليلية ثم نقلها إلى ذاكرة الكومبيوتر واطمأن. لا يعرف ما كان سيفعله لو لم يتسلّح بذاكرتين. يشكر الكوبيوتر كل يوم على منح ذاكرته «البشرية» ذاكرة مطيعة يستطيع السيطرة عليها.

المجلة الالكترونية

العدد 1077  |  آب 2024

المجلة الالكترونية العدد 1077