تحميل المجلة الاكترونية عدد 1077

بحث

الشاهدة

في أوراقها غيّرت اسمَها. منذ كانت طفلة تحلم بأن يكون لها اسم آخر. وفي دفتر صغير دوّنتْ أرقاماً لا تنساها. تعرف أنها لن تنساها، لكنها دوّنتها كأنها تكتب سيرة حياتها. بعض هذه الأرقام عرف الشهرة قبل ولادتها ثم أصبح جزءاً من سيرتها. ٤٨، ٥٢، ٥٦، ٥٨، ٧٠، ٧٣، ٧٥، ٧٧، ٨٢.... أرقام تعيد كتابة تاريخها الشخصي والتاريخ العام. تدرك أن تاريخها الشخصي واحد يسهل سرده، أما تاريخ المكان، فليس واحداً وليس واضحاً، وليست واضحة أيضاً علاقتها به.
لمَ تفكر في كتابة سيرتها؟ ستكون سيرة أوهام أو سيرة مشاريع على ورق، مشاريع معلّقة بالهواء، ستكون سيرة نيات فقط. لكنها مشاريع طموحة ومهمة، ونيات سليمة مئة في المئة، وأوهام جدّية. ستكتب السيرة التي تمنتها سيرتها الذاتية، حكاية حياة سبقتها، وبقيت هي واقفة مكانها تنتظر قطاراً أو طائرة أو سيارة أجرة. انتظرت أن تستقرّ الأوضاع السياسية والمعيشية في البلد، وأن يكبر الأولاد.
ثم انتظرت أن يتفهّم زوجها حاجتها إلى الوحدة، وأن تنطلق إلى وحدتها، أن تجلس وحدها على الأريكة قبالة التلفزيون الليل كلّه، أن تقرأ في الخامسة صباحاً، أن تمشي حافية القدمين في البيت. مرّت حياة كاملة قبل أن تبدأ بكتابة سيرة ليست سيرتها. كتبت سيرة امرأة كانتها «بالقوة لا بالفعل». وأصرّت على أنها تكتب سيرتها ولا تكتب أيام بطلة وهمية أو شخصية ابتكرتها.
تعيد تحديد كتابة السيرة وتقول: «ما ضاع مني جزء من سيرتي. ما ضاع مني ملكي، وقد كان لي في مرحلة ما، في زمن ما ولو كان قصيراً. وأنا أريد أن أكتب عني، عن فرص أضعتها، عن حياة أخرى أخذتها الحرب مني ولم أكن مستعدة للتفريط فيها. في سيرتي أستفزّ التاريخ وأنتقم منه. ولا أهدف إلى كتابته بل أكتفي به خادماً لسيرتي، لذاتي التي أريدها بطلة حياتي وحياة كلّ من المحيطين بي. يحقّ لي أن أحارب الصمت بالكتابة، وأن أحارب الزوال بالكتابة.» شجعتُها على الكتابة ولم أستطع إقناعها بأن الحياة التي تكتبها ليست حياتها.
لا بأس، فلتصدّق تخيّلاتها لأجل الكتابة. تستأهل الكتابة أن تضيع عقولنا لأجلها. أخاف عليها من الوهم ثم أصمت كي لا أؤخر انكبابها على الكتابة. وأفخر بها وإن كانت حماستها تتعبني لأنني أعرف أنها غير ثابتة. تريدني أن أكون شاهدة فقط وأن أشجعها على نشر ما تسمّيه «كتاب سيرتها» حين يتسلّل الجبن إلى قلبها وعقلها. فهي لا تعرف أن توازن بين ما تحسّ به وتختبره، الجبن غير المبرر تقابله جرأة مستفزّة، والخوف الهستيري يواجهه اندفاع هستيري أيضاً. تريدني الشاهدة، تريدني الصديقة الشاهدة التي لم يأت بعد موعد شهادتها، ولن يأتي.

المجلة الالكترونية

العدد 1077  |  آب 2024

المجلة الالكترونية العدد 1077