تحميل المجلة الاكترونية عدد 1077

بحث

مهرّجون

ما زلت لا أصدّق قبح تاريخنا اللبناني القريب حين أقرأ إشارات إليه أو مقالات أو كتباً تعيد تصوير المرحلة البوليسية القذرة من الحرب اللبنانية. ليست الكتابة سهلة من الداخل، داخل البلد المريض، وليست القراءة سهلة، فالماضي لم يمض، واللاعبون لم يتغيّروا.
 هذا الماضي يفاجئني كلما دخلته عبر الكلمات، كأنني ما عشته، كأنني ما سمعت الأسماء نفسها وما خفت من الأسماء نفسها وما قرفت منها ومن أرض يمشي أصحاب هذه الأسماء عليها. وما ذنب الأرض؟ ذنبها أنها تتحمّل. نحن أيضاً نتحمّل، ونحن أيضاً مذنبون. ذنبنا أننا لم نرفسهم ولم نسمح للتاريخ بأن يمارس دوره، بأن يكون تاريخاً، أحداثاً ماضية، أصواتاً غائبة. التاريخ حاضر هنا، والحاضر تاريخ والمستقبل تاريخ أيضاً. لا نتذكر التاريخ لأننا نعيشه. فكيف نتذكّر أحداثاً نعيشها؟ أحداث نعيشها لا نحتاج إلى تذكرها.
الزعيم غيّر رأيه، الزعيم لم يغيّر رأيه. والغول لم يصم بعد عن ابتلاع البشر والمشاريع والأمجاد. وهناك مَن هو «ديكور» فقط، ديكور مزعج. حين أقرأ عن ماض قريب تسلّلت أسماء كوارثه إلى طفولتي، أضطر إلى الاعتراف بالواقع وهشاشته.
خلال طفولتي لم تكن محطات التلفزيون تنقل المعارك في بث مباشر.
كانت خطوط الهواتف معطّلة، والكهرباء مقطوعة. كنا غائبين عن الأحداث الآنية، نسمع أصواتها ولا نعرف ما يجري بالضبط. كانت طفولتي تسأل الأسئلة ولا تنتظر الإجابات عنها.
وحين أقرأ هذه الإجابات الآن، حين أكتشف ما جرى بالضبط في أيام بعينها ما زلت أذكرها، أعيد اكتشاف علاقتي ببلدأكتفي بالعيش في شوارع محددة من عاصمته. حين أقرأ عن الماضي القريب وتحالفاته وظروفه وألعابه، أفهم سذاجتي. كيف صدّقت أنني مواطنة متحضّرة، كيف صدّقت أنني إذا تجاهلت الواقع ازددت «تحضراً».
رفضت أن أقبل بأننا أبناء مجتمعات ضيّقة متناحرة تعيش ضمن مجتمع متنافر. أقرأ عن الحرب الأهلية اللبنانية وأرفض تصديق التفاصيل. أعرف النتائج، أعرف النهايات لكن الطرق إلى النهايات قبيحة، والأقبح أن قطاع الطرق هم أبطال الحاضر، هم خطباء المهرجانات والمنابر، هم المهرّجون وأبطال أفلام الرعب القديمة والجديدة، وهم أنفسهم مع فروعهم وأقزامهم ومراياهم المشوّهة أصحاب المشاريع التدميرية.
فالبناء في مدينة بيروت يتبع تدمير روحها ووجهها وصور تاريخها البعيد.
والتحضير لافتتاح فرعيْ مصرفين شهيرين في منطقة رأس بيروت لا يكون إلا بتدمير مكتبتين عريقتين. فهل هي مصادفة أن يشتري المصرفان المكتبتين ويدمراهما ويقصّا خيوطاً تربطنا بقلب بيروت الحقيقي؟ حلّت الأموال محلّ الكتب المنبوذة. ها هي الكتب تركض خلف أبناء الشعب العظيم، وهم يركضون خلف الأموال. بنك أم مكتبة؟ سألت مالكة سابقة لمكتبة سابقة تحوّلت إلى حفرة عميقة يزرعون الآن فيها بدل الكتب «برجاً سكنياً عظيماً».

المجلة الالكترونية

العدد 1077  |  آب 2024

المجلة الالكترونية العدد 1077