تحميل المجلة الاكترونية عدد 1077

بحث

ثورة

إستمعتُ في السابعة صباحاً إلى دموعها، ما الذي أستطيع أن أفعله؟ «لا تأتي، لا أحب أن تريني وأنا في هذه الحالة،» قالتْ. غادرتُ بيتي إلى بيتها. لم أجدها. كانت قد قالت لي حين اتصلت بها إنها في البيت. اتصلتُ مجدداً. لا ترد على هاتفها النقال. بسبب دموعها لم يبدأ يومي كما تبدأ أيامي كلّّها. أعيش حياتها وتعيش حياتي. قالت إنها سبقتني في إعلان الثورة على الأيام التي تتكرر دون أن نغيّر فيها شيئاً. «تثورين علي نفسك،» قلتُ. أريد أن أعرف كيف سينتهي صباحها المختلف، صباح الثورة هذا. تشبهني.

 أعرفها منذ عامين فقط، وأجهل سبب إحساسي بأنها جزء مني، مثلي تحسّ دوماً بالذنب وتبحث دوماً عن مبررات لأقوالها وأفعالها وللوقت الذي يمرّ من دون أن تستغلّه. تعيش صراعاً مع الوقت، تناطحه وتحاول أن تستفيد منه، أن تخلّص كل لحظة أموراً عالقة. وإذا ارتاحت قليلاً، غافلها الوقت وعادت غير قادرة على الحراك أو التفكير في ما هو مفروض عليها وما عليها إنجازه. مثلي يعذبها شعور ثقيل بالذنب. تحسّ دوماً بأنها مسؤولة عن مصائب حدثت للمحيطين بها، وتتعب لإصلاح الأوضاع، وأحياناً تحاول أن تتخلّى عن مسؤولياتها خوفاً من أن تخطئ، فيفترسها شعورها بالذنب هذا.

اليوم تركت دنياها وغابت في وحدة اختارتها. طاردتُها. وجدتها في المقهى. قالت إنها استأجرت بيتاً جديداً بعدما وقعت في غرام شرفته. أخذتني إلى بيتها الجديد حيث أحاطت نفسها باللون الأبيض، الأريكة بيضاء والجدران كذلك والنوافذ والمكتبة. "هذه المرة قررتُ الاسترخاء،" قالت. ولن يوقظني إحساس بالذنب في الرابعة صباحاً لأنني أصبحت في الأربعين ولم أغيّر العالم. لن أخاف من الوقت الذي يمرّ من دون أن أنجز خلاله أي شيء، أن أقرأ للأولاد أو أكتب قصة حياتي أو أستسلم لضغط العمل أو لسيطرة مَن أحببته وتزوجته رغماً عن الجميع.»

ما الذي تريده الحياة منا؟ سألتُها. فقالت: «أنا أريد استراحة، محطة أنتظر فيها مرحلة جديدة ومكاناً جديداً وزماناً آخر.» تمشينا في الشارع الذي اختارت الهروب إليه. دخلنا متجر الزهور الذي أخبرتني عنه وقالت إنها تخيّلت نفسها مختبئة في خزانة ضخمة تُزيّن مدخله. كل شيء غريب في هذا المتجر، رائحة الهواء، الخزانة القديمة الضخمة، الدهليز الذي ينقلك من غرفة إلى أخرى. الخزانة رائعة. سألنا صاحبة المتجر عنها: «أين وجدت هذه الخزانة؟»
- هذه الخزانة قديمة جداً، كانت لجدتي الإيطالية. أشبه جدتي. هي علّمتني الطهي وحب الأزهار.
- هل تبيعينها؟ سألتْها صديقتي ثم غضبتْ منها حين أجابت بـ"لا" نهائية. «لا أصدق أنها خزانة جدتها.» قالت صديقتي.
البيت الجديد قرب محل الأزهار ومطعم هندي صغير، وصالة عرض لوحات فنية. «لن تجدي في بيروت كلّّها حياً أجمل وأرقى وأكثر هدوءاً،» قالت.

تتنكر صديقتي بأزياء امرأة أخرى، امرأة لا تشعر بالذنب. «أنقذيني،أعطيني القصص لأدفنها في أوراقي. منذ سنين أحارب. لم أجرؤ من قبل على اتخاذ القرار الحتمي. سأتركه. سأتركهم كلّّهم وأترك نفسي القديمة كي لا أرى حين أستلقي على سريري ليلاً ساعة ملتصقة بالسقف، ساعة تعدّ أيامي. أريد أن أرى من غرفة الصالون في شقتي الجديدة زهوراً على حافة النافذة، لا أريد أن أرى السماء في زجاج النافذة فقط أو الزجاج قطعة من سماء غير واضحة تعكس لوحة من الحياة غير واقعية ولا تمكن رؤيتها دوماً، أحياناً يراها من يصحو مبكراً بسبب شعور موجع بالذنب.»

المجلة الالكترونية

العدد 1077  |  آب 2024

المجلة الالكترونية العدد 1077