تحميل المجلة الاكترونية عدد 1077

بحث

صورة الشاعر

قادتنا صورة محمود درويش إلى موعد مع شعره رتّبه لنا المخرج العراقي جواد الأسدي. صورة درويش وعنوان ديوانه الذي أعلن عند صدوره عام ١٩٩٥ دخول الشاعر مرحلة شعرية جديدة اعتُبرت مرحلة الأعمال الجديدة، حملانا إلى مسرح بابل في بيروت حيث قُدّم العرض. وتساءلنا: كيف "سيمسرح المخرجُ الشعرَ؟" كنا نبحث عن المفاجأة ونؤجل تخيّلها في ذلك المساء البيروتي البارد.
بدأ اللقاء بالنهاية، بالموت الذي كان بطلاً في شعر درويش خصوصاً في «جداريته». فهمنا منذ اللحظات الأولى أن جواد الأسدي يزيح عن الشعر الدرويشي أناقته ليكشف عن طبقات الغضب الساخر فيه، وهي سخرية قصد المخرج المبالغة في عرضها عبر طريقة إلقاء نسرين حميدان وأدائها الجمل الشعرية. ابتسمت الممثلة للوجع الذي هو وجع الإنسان ووجع الشاعر وهو عبثاً يأمر الموت بأن ينتظره:
«أيها الموت انتظر! حتى أعد حقيبتي: فرشاة أسناني، وصابوني ماكنة الحلاقة، والكولونيا، والثياب...»
الشخصيات الثلاث عاجزة عن مقاومة أقدارها، أجسامها تنازع، تصارع. الممثلان بسام أبو دياب وعبدو شاهين جسمان يحملان موتيهما، يدفعان بتابوتين، يرميانهما ثم يلتقطانهما في لعبة موجعة مضحكة، لعبة أسدية بامتياز. يصعدان إلى حيث النور قوي، يحاولان الصعود ولا يصلان، فالطريق إلى فوق مستحيلة والخروج من القدر مهمة سيزيفية، يبقى الخروج محاولة خروج. شابان وصبية لوّنهما المخرج بألوان فلسطين لأن درويش الذي كتب الإنساني والكوني كتب فلسطين أولاً وأخيراً.
بدت أجسام الممثلين مثقلة بأوجاع فلسطين وأصواتهم ممزوجة بأنينها، فلسطين درويش هي عراق جواد الأسدي أيضاً، أما الصراع مع حتمية النهايات، فهو صراع واحد، صراع الإنسان مع وجوده. لكن التوابيت كثيرة في تلك الأرض الضيقة، أرض سجينة جدارين سوداوين تطلّ منهما نوافذ ضيقة بدورها، نوافذ تخنق بدل أن تحرّر. 
يتحمّل شعر درويش رؤى المخرج، يتحمّل أن يكون ساخراً وحزيناً وحقيقياً وكونياً وشخصياً، يتحمّل أن يكون أيضاً نصاً مسرحياً خصوصاً في الحوارات بين الإبن وأبيه في ديوان «لماذا تركت الحصان وحيداً؟»:
«إلى أين تأخذني يا أبي؟
 إلى جهة الريح يا ولدي...

- لماذا تركت الحصان وحيداً؟

لكي يؤنس البيت، يا ولدي،
فالبيوت تموت إذا غاب سكانها»
تفاجئ موسيقى أصوات الممثلين وهم يلقون الجمل الشعرية التي قرأناها في ديواني درويش مرات لا تعدّ، فلم نسمع خلال قراءاتنا ما أسمعنا إياه جواد الأسدي.  هذا اللعب بالأصوات يهدف إلى التخفيف من شعرية الحوار بين الأب وابنه في «لماذا تركت الحصان وحيداً؟» ليتحوّل النص الشعري إلى نص مسرحي. والسخرية التي أبرزها الأسدي في المقاطع المختارة من «الجدارية» هي سخرية مسرحية وليست سخرية شعرية، هي سخرية مسرح جواد الأسدي حيث التعبير عن الحزن والغضب هستيريٌ. إلا أن عبقرية نص درويش تسمح له بتحمّل ألعاب جواد الأسدي الإخراجية وحسّه الدرامي العالي وفجائعيته. هو نص حيّ دوماً يتحدى أبداً الموت الذي دفع إلى وجوده.
كان جميلاً الحزن في صوت نسرين حميدان وهي تغني الشعر كأنه ندب عاشورائي وترتيل كنائسي:
«سأقول: صبّوني
بحرف النون، حيث تعبّ روحي
سورة الرحمن في القرآن. وامشوا
صامتين معي على خطوات أجدادي
ووقع الناي في أزلي. ولا
تضعوا على قبري البنفسج، فهو
زهر المحبطين يذكّر الموتى بموت
الحب قبل أوانه....»

المجلة الالكترونية

العدد 1077  |  آب 2024

المجلة الالكترونية العدد 1077