تحميل المجلة الاكترونية عدد 1077

بحث

كوابيس لبنانية

في الكابوس تحت ماء الشتاء، هناك في قعر نفسي، في بطن مستشفى قبيح، أردتُ الخروج من اسمي. كيف نخلع أسماءنا؟ أنا لا أريد أن أكون أنا. أريد كلّ ما بنيتُه ولا أريد كل ما ولدتُ به، كلّ ما ورثتُه ولم أختره. لكنني أمام فكرة مثل هذه لا أستطيع أن أفعل شيئاً. أترك لمناماتي فرصة أن تنسيني الإحساسَ بالعجز.
لن أخطط بعد الآن. سأترك اليوم يجرّ الغد، وسأقاوم الماضي. كيف أقاومه؟ أسأل. لا أحد يعرف الجواب. أجده أحياناً في قصصي، في كلمات أبحث عنها فتجدني وأفرح بها. لا يمكن خلع الماضي، الماضي يلبسني ولا ألبسه، وهو ليس ماضياً واحداً، هو أكثر من ماضٍ، ماضي بلد أحبه وأكرهه في اللحظة نفسها ألف مرة، ماضي عائلة نصف قصصها ممتع والنصف الآخر من دون معنى.

ليست أوجاعنا شخصية فحسب، هي أوجاع معدية، أوجاع مكان ليس سوى مكان، ليس بلداً حقيقياً، حتماً ليس وطناً، ولا أعرف ما هو. هو بلد يطرد أبناءه منه، يرفسهم ويذلّهم ويأكلهم، بلد سيارات فخمة لضمائر قاحلة، بلد الوعود الفارغة يطلقها أنصاف البشر. بلد يكرَّم فيه المجرمون ويبتلع بحرُه الباحثين من أهله عن لقمة العيش في النقطة الأبعد منه على خريطة العالم وفي الكرة الأرضية.
في الجريدة دموع وخوف واستغلال و"استغباء". في الجريدة محفورة أسماء الماضي، ماضي حروب لا تنتهي. والتلفزيون غبي، التلفزيون في الغرفة، والغرفة في المستشفى، والمستشفى في شارع ولدتُ فيه وعدتُ لا أعرفه. الشارع في بيروت وبيروت في لبنان، ولبنان خارج الأرض، "لبنان حزورة" قال الرئيس السابق لبلد سابق. ماذا أقول؟ لبنان في مكان لا تصيبه إلا الويلات، مكان مسلٍ وكئيب في الوقت نفسه، مسلٍ لأنه يحتمل ألا تتوقف عن السخرية منه، مكان يصلح لأن يكون بطلاً كاريكاتورياً.

في البلد الساقط دوماً بأبنائه إلى الفوضى والفراغ، سقطت الطائرة. كيف يمكن للحزن أن ينتهي؟ القصص تجرّها قصص، والغائبون في البحر ينتظرهم غائبون في بحار الوجع. فمتى ينتهي الحداد؟ 
نعيش هنا في بيروت، على جزر محدودة المساحة. الولدان يطالباننا بالتوسع إلى "البيروتات" الأخرى ولا نستطيع. "أين العشب الأخضر يا أمي؟" يسأل الولد. في مكان قريب من البحر الكئيب، بحر بقع المازوت ومخلّفات حروب الخارج والداخل، وبحر الموت أخيراً، جزيرة من الباطون اكتشفنا فيها نوعاً من الراحة والاطمئنان إلى سير الأيام. اخترنا أمكنتنا وحددناها، ورسمنا طرقنا إليها وانتهى الأمر. ذلك أحد شروط العيش في الوطن بعد العودة إليه في طائرة لحسن حظنا أنها لم تقع. فهو الوطن المحطة، محطة خطرة، محطة قاتلة، والأصوات المسموعة فيه قادرة على قتل أي إيمان به، أصوات لا تعرف الخجل، لكنها أصوات تستمرّ مسموعة بأصواتنا، فمَن يسكتها ومتى؟

المجلة الالكترونية

العدد 1077  |  آب 2024

المجلة الالكترونية العدد 1077