تحميل المجلة الاكترونية عدد 1077

بحث

إعتراف

حملتُ أوراقي في حقيبة يدي، حملتُ كتباً أيضاً. الشوارع صامتة والشمس تكشف بخجل عن نورها. يرافقني شعور غريب بأنني أعيش في جسم شخص آخر وبأنني لستُ أنا. كان العشاء لذيذاً البارحة. تفنّنت في تحضيره وسعيتُ إلى أن يكونوا كلّهم سعداء. ليلى والبنات وسعيد ونهى وإيمان ومحمود، كلّهم أتوا البارحة إلا خليل أجّل عودته من الأردن كي لا يكون في البيت ليل البارحة. كانوا كلّهم سعداء أصابهم فرح هستيري. أسفوا للحظات سريعة لضحايا الكوارث الطبيعية وغير الطبيعية، هربوا من الكلام على الموت إلى الكلام على كل ما يجعل الحياة عادية، ديكور المنازل، خطوط الموضة، قصص الحب. لا أعرف إذا كنتُ أنا سعيدة البارحة. ابتسمتُ مرات عديدة وانتظرت أن يرنّ الهاتف ليقول لي خليل أنه غيّر رأيه وقرر المجيء.

لم يأت. يؤكد غيابه على أنه لا يريد عودة الأمور إلى ما كانت عليه قبل نجاحي الجديد. «مبروك ضحى»، قالت ليلى. «ماذا قلتِ؟ لم أسمع». «مبروك». كأن الأصوات تصل إليّ من عالم آخر، كأنني تحت الماء. لا أعرف إذا كنت أريد المنحة أم لا. نظرياً أريد الحصول على الدكتوراه، أستطيع أن أترك ابنتيّ مع أمي ومع خليل. لكنني سبقتُه إلى هدف طالما سعى هو إليه. بعد زواجنا اضطر إلى التوقف عن الدراسة، بدا اختيار الوظيفة بديهياً، وهو سعيد في عمله. وأنا سعيدة لسعادته وسعادتنا، فلمَ لا يشجعني؟ لم أسأل أحداً هذا السؤال. سألتُ نفسي: لمَ ما زلت لا أعرف ما أريده؟ غيّرتني الأمومة لكنها لم تثبّتني بالأرض، لم تقنعني بأنها معنى وجودي. أريد أن تغادرني الأسئلة، أن أكتفي بالتسوّق وشرب القهوة. ولا أعرف أن أكون أماً فقط إلا أنني لا أقصّر في واجباتي تجاه ابنتيّ. خليل يعرف هذا الأمر جيداً.

كانت الجلسة البارحة ممتعة. سأطمئن زوجي إلى أنني برعت في دور «سيدة البيت»، العشاء كان لذيذاً والجو دافئاً في غرفة الطعام الكبيرة. كانت العاصفة في الخارج تعيش لحظاتها الأخيرة. ثم فجأة أحسست بأنني أعيش في جسم شخص آخر، خرج صوتي من جسمي الجديد صوتاً آخر لا أعرفه، ولم أستطع السيطرة على ما أقوله. قلت أشياء كثيرة. وأنا لم أعتد أن أكون صريحة إلى هذا الحد، كشفت أسراراً ما كان يجب أن أكشفها حائرة بين شعور بالراحة، كأنني كنت أنتظر خروج تلك القصص الصغيرة مني، وشعور بالانزعاج انتقل إلى ضيوفي لتتبدد سعادتهم ثم غضبوا كلّهم مني. لا بد أنني قلت أشياء ما كان يجب أن أقولها. لا أذكر ما قلته. تكلّمت، كأن الكلام علاجي. ذكّرتهم بقصص قديمة من ماض لا يريدونه ولا يعترفون به، وأنا لا أفصل نفسي عن الماضي، لا أخرج منه ولا يخرج مني. أذكر أنني تمنيت أن أكون أكثر ذكاء. «ينقصني القليل من الذكاء»، قلت لخليل مرة. فلم يصدق «اعترافي» هذا. ولم يساعدني. إبتسم. «لا أمزح»، قلت.

كان العشاء لذيذاً، والموسيقى دافئة، تبادلنا الكتب، تفرّجنا على العالم في قصصنا. ثم قلت أشياء لم يعجبهم. بدأتُ بليلى وانتهيتُ بمحمود. كنت قد جلست في كرسيّ أتلقىّ عبارات الثناء وأضحك. ثم قلت كل شيء، فجأة توقفوا عن الضحك. خرجوا غاضبين وخرجت معهم أنتظر فجر يوم جديد.

 

 

المجلة الالكترونية

العدد 1077  |  آب 2024

المجلة الالكترونية العدد 1077