تحميل المجلة الاكترونية عدد 1077

بحث

الكرسي الأحمر

كانت تفكر فيه. منذ ليالٍ عدة لم تحلم به. لكنها اليوم، وقبل أن يبدأ سباق الصباح، تذكرت يوم قال لها إنه يفضّل أن تمطر كلّ يوم. هي أيضاً تحب المطر. وهي لا تعرف أن تكره. أعطته لغيرها، لامرأة لا تشبهها. لم تعترف بما أحسّت به تجاهه. لم تعترف يوماً بحقّها بالسعادة. تبرع في احترام القوانين، تكتب أيامها في دفتر قبل أن تعيشها. كل يوم تقوم بالخطوات نفسها، منذ تصحو في السادسة صباحاً إلى أن ينتهي يومها لحظةَ تمنح نفسها للنوم. أعطته لغيرها. أعطت الآخرين الماضي أيضاً. مَن هي من دون الماضي؟ لا تهمّها هويتها، لا تسأل عن صورها القديمة وصور الحاضر والمستقبل. لا تسأل. تعيش فقط. اليوم يجرّ الغد، ولا تطلب من الغد الكثير. تعيش. هذا ما تعلّمته من نشأتها وحيدة ومن أيامها في المدرسة الداخلية. كانت تنضمّ إلى أمها في الصيف، تطير إليها لتمضي معها ومع خليل زوج أمها إجازة الصيف.

كلامها قليل، واليوم لم تتكلّم بعد. منذ وصلت المكتب انكبّت على ترجمة النص المكتوب بالفرنسية إلى العربية. تركت لها الأستاذة الملاحظات على ورقة صفراء. لا تناقش. وإذا أحبت أخفت حبها. هكذا أحبتْه بصمت. ثم أعطته لغيرها. زوّجته. راقبته وهو ينسحب من حياتها. شَعرها جميل تلك المرأة التي أخذته منها. وهي لا تكرهها، بل تحبها أحياناً. تستلطف ابتسامتها. تقول إنها تنسى سريعاً كلّ ما يحدث لها وإن النسيان يساعدها على أن تحبّ مَن لا يجب أن تحبّهم. وهي لا تخطط لأن تحب أو تكره. هي تعيش. تقول إنها تعيش. «أعرف أنك لم تموتي بعد،» أقول لها.

في الواحدة، خلال استراحة الغداء، خرجت من المكتب لتشتري سندويشاً من المقهى أو لتتناول «سلطة الشيف» التي تحبها. وجدته قبالتها. لم تسأله عن زوجته. انتظرت أن يدعوها إلى الجلوس. ابتسمت وهو يقول لها، «فلنجلس.» جلست. ألصقت ظهرها بالكرسي الجلدي الأحمر. أحسّت فجأة بأنها اكتسبت قوة غريبة، وبأن الأشياء واضحة في رأسها، المواقف الماضية والمشاهد التي ظنت أن ذاكرتها لم تحتفظ بها. كأن قوة خارقة تسرّبت من الكرسي الجلدي الأحمر إليها. تركته يتكلّم. يُنبت كلامُه فيها شعوراً بالحرية، تحسّ بأنها حرة وخفيفة. أحست وهو يتكلّم بأنها بطلة قصة أو بطلة خارقة «سوبر وومان». تعرف أنه وحده قادر على أن يفكك عقدها ويمنحها الشعور بأنها لم تكبر بعد وبأن لحياتها معنى لا تفهمه، لكنها حياة بمعنى ولون وماضٍ. معه يمكن أن تستعيد هوياتها، هي الطفلة الأبدية الخائفة دوماً من الخيبة. هي؟ مَن هي؟ سألته: «مَن أنا؟ هل تعرف؟». لا يجيب. ثم يحكي ويضحك، يقول أي شيء. لكل من الأشياء التي يعيش بينها قصة يبدو مستعداً دوماً لأن يرويها، عن نظاراته ومحفظته وأخيه وسيارته، قصص لا يمكن أن تنساها رغم قدرتها العجيبة على النسيان. تريد أن تسأله إذا كان يعرف أنها أحبته. تسلّحت بجرأتها الجديدة وبثورة مفاجئة ولدت فيها. نظرت في عينيه وسألته: هل كنت تعرف؟ ثم نهضت عن الكرسي الأحمر امرأة أخرى.

 

المجلة الالكترونية

العدد 1077  |  آب 2024

المجلة الالكترونية العدد 1077