تحميل المجلة الاكترونية عدد 1077

بحث

جريدة السيّدة

طلبتْ مني أن أعدها بزيارتها. وعدتُها بالزيارة، وهي وعدتني بقصص كثيرة تسردها لي وتسمح لي بأن أكتبها وبأن أسجّلها خلال جلستنا. «المهم تعالي، أنتظر زيارتك منذ مدة طويلة.»
كلّما اتصلتْ بي، استغربتُ لطافتها وحبها الذي تقدّمه بكرم فائض. لمَ تحبّني إلى هذا الحد؟ تقول إنها ترى فيّ المرأة التي لم تسطع أن تكونها. لا بأس، قبلتُ بشرحها هذا. نسيتُها ونسيتُ أمر الزيارة. ثم رأيتها في الصيف الماضي، في إحدى حفلات مهرجانات بعلبك. سعدتُ بإصرارها الغريب على حضور الحفلات الموسيقية بالرغم من ألم يصيب ركبتيها. بدت تجاعيد وجهها جميلة تحت قمر بعلبك والضوء في عينيها السوداوين لا يبهت. لا، لن أفوّت فرصة زيارتها ولن أسمح للوقت بأن يمحو مساحات جديدة من ذاكرتي، ولا أن يقتل روتين العمل فرص هروبي من خرائط أيام لم أرسمها أنا بل أكتفي باتباع ما رُسم فيها.

اتصلتُ بها أخيراً، لكنني لم أسمع صوتها. ردّت عليّ امرأة صوتها خشن وجملتها حادة. «ليست «الستّ» هنا، اتصلي بها لاحقاً.» ثم اتصلت بي «الستّ» بعد دقائق. قالت: «كنت أقرأ الجريدة. كذبْت عليك أم عدنان. تخاف من أن تقاطع قراءتي جريدة اليوم. قالت إنني خرجت، وأين أخرج في هذا الطقس العاطل؟ تعالي أنت زوريني إذا أردت. لا أستطيع أن أترك أوراق الجريدة من دون أن أبتلع كلماتها كلّها. أقرأها وأعيد قراءتها حتى يحين موعد الغداء. آكل وحدي. تعرفين أنني أعيش وحدي منذ أعوام طويلة، منذ غادر وحيدي فارس إلى كندا. أنت لا تعرفين ابني فارس، كنت صغيرة حين سافر. وهو لا يأتي إلا في الإجازات.» وددت أن أسألها لمَ ما أنجبت غير ولد واحد، لكنها لم تسمح لي. لم تتوقف عن الكلام. قالت: «أنا لا أقبل أن أطير إليه في كندا. لا أقبل أن أركب الطائرة، يقتلني خوفي إذا ركبتها، وهل أنا مجنونة لأعلّق نفسي في السماء خلال ١٢ أو ١٣ ساعة، "شو هالحكي؟ لا." أنام قليلاً بعد الغداء، ثم أزيح الوسادة النائمة إلى جانب وسادتي، لأعانق كتباً أكون قد اخترتها من مكتبة سليمان.

 تعرفين سليمان أليس كذلك؟ مكتبته قريبة من المحمصة في زقاق متفرّع من شارع جان دارك في الحمرا، عرفتِه أليس كذلك؟ أقرأ، هذا ما أفعله كل يوم. أستمتع برائحة الورق قبل أن تأخذني الكلمات إلى أمكنة بعيدة وتخلّصني من وحدتي الثقيلة ومن شوقي إلى الماضي وأحياناً إلى الغياب. فأنا لا أخاف من الموت كما تعلمين. ألم أقل لك هذا الكلام من قبل؟ لا أخاف. حبيبتي أنتِ، زيارتك تعني لي الكثير. أعرف قصص العائلة كلّها، اكتبيها، إفضحيهم. على الأقل نكون قد استفدنا منهم ومن غباء بعض أفراد هذه العائلة، خصوصاً الرجال. عقولهم صغيرة، أليس كذلك؟ تعالي غداً، أنتظرك في السادسة. احملي معك كتاباً أحببتِه لأضعه تحت وسادتي وأقرأ فيه قبل النوم. أوكي، اتفقنا؟ حبيبتي أنتِ مع السلامة.»
أقفلت الخط. لم تسمح لي بأن أتنفس، بالكاد تنفست. غداً في السادسة؟ مَن قال لها إنني أستطيع الذهاب إليها في السادسة؟ أستطيع أيضاً ألا أذهب. لكنها تنتظرني. ثم وجدتُني أنا أنتظر السادسة. أريد أن أرى غرفتها وتلك الوسادة التي تنام تحتها الكتب وروائحها.  

المجلة الالكترونية

العدد 1077  |  آب 2024

المجلة الالكترونية العدد 1077