تحميل المجلة الاكترونية عدد 1077

بحث

ذاكرة بوليسية

«لا تقولي إنني أشبهُ شاعراً مات منذ أسابيع، فلا أصدّق أنك تقرأين الشعرَ. ولا تتحديني بالكلام على الموت. أعرف أن الشاعر الراحل كان وسيماً، وكان يقضم الدنيا قضماً، وكان العالم قصيدة بين يديه. ما زلتُ أبحث عن مكاني هنا في هذه الدنيا ولا أريد أن أشبه أحداً هناك. والشاعر أمّن مكانه هنا وهناك. أما أنا، فاسمي نفسه لست متأكداً منه، ولا أثق بالأمكنة التي اخترتُها ولا بالأمكنة التي اختارتني.»
«بدأت حكايتُنا الجديدة بنهاية سعيدة. فالنهاية بداية فصل جديد من قصة حياة أو قصص حيوات تلتقي وتفترق.» يقرأ علي ما كتبتُه، ويعلّق عليه قائلاً: «يمكنك أن تكوني أكثر وضوحاً، أنا أيضاً أكتب جملاً غامضة، وحين أعيد قراءة ما كتبتُه بعد أيام على كتابته، أقرّ لنفسي بأن غموضي هو نتيجة تربية معقّدة.»
كنتُ على موعد مع علي. السيدة الجالسة إلى الطاولة في الزاوية تراقبنا. ربما ذكّرتُها بابنتها المهاجرة أو ربما تهرب إلى مشهد طاولتنا من فكرة تزعجها. منذ نظرتي الأولى إليها أحسستُ بأنني رأيتها في مشهد من فيلم أو في حياة سابقة. كنت واثقة بأنني لم أرَ وجهها من قبل، لكنه في الوقت نفسه ليس وجهاً غريباً. أحسّ بالراحة كلّما نظرت إلى وجهها ويديها اللتين تشبهان يديّ رجل ناعم.
نحارب الزحمة في الخارج بالبقاء أطول وقت ممكن في أقلّ المقاهي ضجة في بيروت. يتعجب علي من اهتمامي بوجه السيدة. ولا تنظر السيدة إليّ. حاولت أن أبتسم لها لكنها تبدو كأنها ترسم على ورقة ألصقْتها بالطاولة. لا يصدّق علي أنني لست مستعجلة على الزواج. ويقول: «فلنتزوج قبل أن يعود إليّ خوفي من الاستقرار.»
قبل أن أصحو فجراً رأيتُ في المنام أو في ذاكرتي الطازجة، قبل بداية النهار، وجهَ السيدة الرسامة في المقهى. رأيتُها أصغر سناً ورأيت وجهها ممتلئاً مدوّراً، وحين صحوت تماماً تذكرتُها. هي جارة عمتي، وأنا لم أزر عمتي منذ طلاق والديّ. تذكرت كلبها ورائحة البخور المتسلّلة من شقتها إلى شقة عمتي. كنت في السابعة ربما. رأيتها قبل أن أصحو وبدتْ في صور ذاكرتي صبيةً ممتلئة تلامس وجهَها خصل شعرها الجعدة. حاولت أن أشرح لِعَلي دهشتي بعمل الذاكرة كأنني فككت لغزاً مزعجاً. ارتحتُ. وقلتُ إنني إذا رأيتها مرة أخرى في المقهى الذي أتردد عليه، سأذكّرها بي، سأذكّرها بعمتي وبستائرها الملوّنة وصوتها الخفيض.
ثم رأيتُها مجدداً في المقهى. جلستْ إلى الطاولة نفسها، قلم الرصاص بين أصابعها والورقة أمامها. «أعرفك لكنك لا تعرفينني»، قلتُ لها. أستطيع أن أحتفظ بالقصة لي وألا أخبر بطلتها بدهشتي بعمل ذاكرتي. لكنني تكلّمت ثم رأيت وجهي على ورقتها قبل أن تضع كفّها عليها وتخفي بأصابعها وجهي المرسوم على الورقة. قالت إنها تذكرتني وأنا طفلة في فستاني الأحمر الصغير. وابتسمت ثم لم تسأل سؤالاً واحداً عن حياتي الآن أو عمّا أفعله.
فهمتُ أنها تريد أن تنهي الكلام بيننا. لكنها لم تكفّ عن الابتسام. وأنا لم أود أن أودعها. ولم أجرؤ في الوقت نفسه على الاستمرار في الكلام . صمتُّ. انسحبت بهدوء ولاحظت بعد ثوانٍ من عودتي إلى طاولتي أنها سحبت يدها عن الورقة، وتوقفت عن الرسم لتشرب قهوتها. لم تلتفت إليّ، لم تنظر إلى طاولتي. غادرتُ قبل مغادرتها ولم أودعها.

المجلة الالكترونية

العدد 1077  |  آب 2024

المجلة الالكترونية العدد 1077