تحميل المجلة الاكترونية عدد 1077

بحث

صوت الشاعر

أصبحت ملهمتي في السبعين. رأيتُها جميلة في السبعين، ما زال شعرها أحمر، وما زالت تبوح لي بأسرارها. عادت من لندن إلى بيروت في زيارة قصيرة. التقينا سريعاً في مقهى أصرّت على أن أختاره أنا، ولم يعجبها أنني لم أرتدِ لموعدي معها فستاناً أسود. ملهمتي كاتبة مبدعة، لا تحبّ الألوان، ولم تخجل البارحة من الاعتراف لي بأنها يمكن أن تغرم بصوت. «أقع في غرام رجل لأجل صوته فقط. أحببتُ صوتين خلال أقلّ من 15 عاماً. كان صاحب الصوت، الذي ذوّبني خلال صباي الأول، أستاذي في الجامعة. حاولتُ أن أفهم سبب انجذابي غير المبرّر نحوه. اقتنعتُ أخيراً أن صوته فقط يؤثر فيّ وطريقة كلامه تجعلني أحتاج إلى الاستماع إليه. لمَ اهتمّ بي الرجال؟ لا أعرف. كنت صغيرة ومقتنعة بأنني مختلفة عن صديقاتي وزميلاتي، أنضج منهن وأجمل منهن وأكثرهن جدية والتزاماً وشغفاً بالحياة.أتعرفين أنك تذكرينني بصباي؟ أنت ألهمتِني مشاهد من روايتي الأخيرة، وستظهرين أيضاً في كتابي الجديد.»

أكتبُ لها على ورقة صغيرة أسماء المطاعم والمقاهي التي يزورها أصدقائي، وأحاول أن أقنعها بأن تستعمل الكومبيوتر، لكنها ترفض تماماً الاستغناء عن القلم والدفتر. ثم تقول إنها تحاول أن تعتاد وجود الكومبيوتر على مكتبها. أخبرتُها أنني كبرتُ فجأة وأنني عدت لا أحبّ السهر، ولا يهمّني الخروج ليلاً. أجلس في غرفتي، أقرأ وأنام في ساعة مبكرة، أصحو قبل أذان الفجر.عادت لا تقنعني فكرة الكفاح اليومي. تعبتُ من اللهاث، من الركض بين مركز عملي وبين الجامعة حيث أدرّس الكتابة الإبداعية، ثم من الجامعة ومكتبي إلى القراءة والكتابة في غرفتي.

لأنها ستختفي بعد أيام قليلة، وربما لن أراها مرة أخرى، أخبرت الكاتبة ملهمتي أنني منذ وقعتُ في غرام صوت الشاعر، أفضّل البقاء في غرفتي للاستماع إلى قصائد ألقاها بصوته قبل أيام من رحيله. منذ مات الشاعر لا أستطيع أن أمنع نفسي من البكاء كلّما سمعت صوته، ولا أستطيع أن أمنع نفسي من أن أسمع صوته. يملأ صوته ثغرات فيّ، يمحو أسئلة لا أجوبة عنها، يلوّن الوقت الذي لا لون له ولا معنى. قلت لملهمتي الكاتبة السبعينية إنني أنا أيضاً ظننتُ نفسي أنضج من زميلاتي، ظننتُني سأطير في الهواء وأحلّق عالياً، ثم لهوتُ بالوقت، ادعيتُ أنني واقعة في غرام ولد لا يرى ضوء الشمس، يعيش ليلاً ويحبّ ليلاً ويخرج ليلاً ولا يقرأ. كيف وجدتُ نقيضي حين وجدته؟ أنا أيضاً أحتاج إلى الكتابة، وأنا مقتنعة بأن الكتابة يمكن أن تغيّر حياةً، تقلبها وتثقلها وتخففها، ويمكن أن تغيّرني.

وقبل أن تعلّق الكاتبة على كلامي أضفتُ: «لا تقولي لي إن أفكاري متشابكة وضبابية وغير منظّمة، أمي وأبي أقنعاني في الصغر بأنني الأذكى وأنا اقتنعت وصُدمت، أصارع لأتخلّص من كبرياء ذكائي. أنا غبية، بدأت أقتنع بهذا الاكتشاف الشخصي جداً. غبية تحب شاعراً ميتاً. أحلم به، أعود إلى صوره وكلّما سمعت صوته تذكرتكِ.» توقفتُ عن الكلام لأسألها عن الشاعر. اعترفتْ بأنه أحبها بالرغم من أنها أكبر منه، ثم قالت إنها لا تفكر في الموتى، ولا تحبّ الكلام عليهم. قلتُ لها إنني أكتب عن الشاعر الميْت وأرسمه. وقالت إنها تكتب عن الحياة وترسمها وإنها تنسى أصدقاءها الموتى لأنها اقتربت من الموت. أشبهها ولا تشبهني، هي ملهمتي وأنا ملهمتها، هي أنا بعد أربعين عاماً، وأنا بطلة كتبتْها في رواية منذ خمسين عاماً وما زالت تكتبُها. 

 

المجلة الالكترونية

العدد 1077  |  آب 2024

المجلة الالكترونية العدد 1077