تحميل المجلة الاكترونية عدد 1077

بحث

حروب يومية

«نجوى أهانتني وأنا لن أسكت على الإهانة،» قالت هدى. «أخذتْ مني عادل وأخذت البيت الذي اخترتُه والأحلام التي حلمت بها. ظننتُني دوماً الأذكى والأجمل. حصلتُ على كل ما لم تستطع هي الحصول عليه. ثم فجأة تركني عادل لأجلها وأخذا مني أصدقائي وصور الأيام الماضية. أخجل من تذكر تلك الأيام. كيف لم أنتبه إلى خيانتهما؟ كيف تركتُ لها كل شيء؟  أقول لنفسي «يا بنت كبّري عقلك، هما ولدان صغيران وأنت الذكية، أنت الملكة، تربيتك تربية ملكة» ثم أحسّ بغضب ناري، ضحكا عليّ وعاشا الأيام التي خططتُها لنفسي.» أقاطعها كل مرة لأذكّرها بأنها ما زالت في الثالثة والعشرين. وأسأل: «ما زلتِ طفلة، متى خططت لكل هذا؟»

«أنا اخترتُ عادل، كان عليه انتظاري. كان يشكو من أنني أعامله بقسوة. حدث كل شيء سريعاً في أقل من عام واحد. تركني هو ونجوى، صديقة عمري، وتزوّجا. وأنا مشغولة بحروبي اليومية. تعلّمتُ منذ صغري أن أحارب، أحارب إهمال والدي لي بسبب انشغاله بصحيفته والأموال التي يجب أن يؤمّنها، أحارب غياب أمي عن البيت وانشغالها بالانتقام من أبي، وربما ورثتُ منها الرغبة في الانتقام. وأحارب لأطوّر نفسي وأجد مكاني في جريدة يملكها والدي. حين وجدتُكَ يا علي كنتُ على حافة الانهيار. هل أحسست من قبل أنك تصارع نفسك، تحارب نفسك وتقاتلها وتنتقهم منها؟»

انتهى كلامنا. أوصلتُها إلى بيتها البارحة مساءً. لم تتصل بي قبل نومها. لم أتصل بها، قررت أنها تحتاج إلى فرصة للانفراد بنفسها. وقررت أيضاً منذ صحوت اليوم صباحاً أن ألحق بها، أن أطاردها في شوارع بيروت لأعرف ما تفعله حين لا نكون معاً. أجد صعوبة في أن أمشي من دونها. أحبها أن تشاركني المشي خصوصاً. أمشي لأتذكر المناظر والشوارع والبنايات، أمشي لأتذكر، فذاكرتي تحمل الصور ولا تطيق الحروف والأسماء التي تركّبها الحروف. ذاكرتي مزاجية متعِبة تحاربني مثلما يحاربني كل شيء هنا. تدّعي هدى أنها هي المحاربة وأنني أسعى إلى الاستسلام. لكن ما معنى الاستسلام في مجتمع لا يفهم وحدتي؟ هو استسلام للموت فقط. أنا أيضاً أكافح لأحيا، أكافح أفكاراً سوداً وأنانيتي ورؤيتي المغلوطة لمواقف حياتية عديدة، وكلامي القليل والجسور بين الماضي والحاضر التي أراها أنا فقط. لا تحلّ الصور الفوتوغرافية محلّ الذاكرة. وحدها الكتابة تشفيني، وهدى ترفض أنني كاتب فاشل وتشبّهني بشاعر مات العام الماضي وما زلت لا أصدّق أنه مات. عدتُ إلى قصائده لأسأل أسئلتي، وقرأته لأقاوم الموت.

هدى مرآتي. وجدت مرآتي في مدينة أعلنتُ موتَها منذ ٢٣ عاماً، منذ ولدت هدى، فأقول لها: هدى، إحكي لي حياتك لتحكي لي بيروت في غيابي.

كيف تفهم هدى كلماتي سريعاً؟ أنا لا أفهمها. تجيبني قبل أن أنهي الجملة، تتحرّك الكلمات بيننا، تقفز، تتسابق، تستعجل كلماتي الوصول إليها. وأنا أستعجل الوصول إليها. أطاردها الآن، وهي لم تلاحظني بعد. لا أستطيع أن أناديها. أين تذهب صباح يوم ممطر؟ أراقبها من بعيد وهي تراقب نجوى. أيمكن أن يكون كلامها جدياً؟ ما زلت لا أصدّق أنها يمكن أن تختار هويةَ قاتلةٍ.

المجلة الالكترونية

العدد 1077  |  آب 2024

المجلة الالكترونية العدد 1077