تحميل المجلة الاكترونية عدد 1077

بحث

حروف وأوهام

طلب من الحروف أن تصمتَ. لا أسمع أصوات الحروف لكنني تعبتُ من كلامها، وأشكالها على الأوراق وعلى لوحة الكومبيوتر وشاشة الهاتف الضيّقة. تعبتُ من حروف مفكّكة تنتظر أن أجمعها وتشتّت وقتي. أعيش مع الحروف، تتناول معي طعام الفطور بعد أن تقفز من جريدة الصباح، ثم يبدأ يومي الطويل معها، من كتاب إلى مقالة، من رسالة إلكترونية إلى رسالة هاتفية مكتوبة، من قصيدة إلى كتاب تاريخ عن ديكتاتور راحل وديكتاتور لم يرحل بعد. قلتُ إن دخول صبية مثل هدى حياتي يريحني من سيطرة الحروف علي حياتي، لكنها تصرّ على دخول عالم الحروف المبعثرة والأسئلة المقطوعة عنها أجوبتها؟
وأنا لا أرفض لهدى طلباً. «إكتب أنك لن تتركني». فأكتب أنني لن أتركها. «اكتب أنك ستكتب عني». فأكتب أنني سأكتب عنها. تبالغ هدى في احترام الحروف وتقول إنها تؤمن بقدرة الكتابة على تحقيق ما لم يستطع الكاتب تحقيقه في الواقع. «في النص يمكن أن تكتب مكاناً غير موجود أو مكاناً لم يعد موجوداً، يمكن أن تحقق المستحيل، أن تعيد تركيب زمن مضى، أن تعيش وهماً من دون أن تسميه وهماً، أن يحبّك مَن لا يحبونك، وأن يكرهك مَن تكرههم».

حين تتكلّم هدى تخرج الدهشة من عينيّ، فأتخيّلهما تقفزان إليها كأنني شخصية من شخصيات الرسوم المتحرّكة. ولفرط دهشتي لا أصدق كلام هدى وأتّهمها بيني وبين نفسي بأنها قرأتْه في كتاب وحفظته لتردده في جلستنا. ولا يضايقني افتراضي هذا، فليس حفظ كلام من هذا النوع مهمة سهلة. فهدى تلفظ الكلمات بثقة تدلّ على فهم الموضوع وعلى رغبة في انتزاع اعتراف مني بذكائها. وأنا أعترف بذكائها كل يوم وبافتتاني بكل ما فيها. وهي تطالبني بالردّ على إيمانها بالكلمات، تسألني: ما رأيك؟ وأحار في أن أعطيها جواباً جدياً فأحيلها إلى جمل في كتب كأنها تلميذة في صفي أو أن أكتفي بابتسامة كما أفعل دوماً تعبيراً عن سعادتي بها. في يوم واحد أتعرّف في هدى على شخصيات متعددة ومتضاربة أحياناً، أتنقّل معها بين طفولة أعشقها ونضج يخيفني، ولا أفهم غموضها في معظم الأحيان، فهي ممثلة بارعة، وأنا وحدي جمهورها.

أمنع نفسي من التصفيق أحياناً، ولا أقول لها «برافو، أداء رائع»، بل أدعي أنني صدّقت قولها إنني غيّرتُ حياتها وإنها لن تتخلّى عني. لا أعرف لمَ لا أصدّقها، ربما لأنني لا أريد أن أصدّقها. أمنحها الآن بسعادة وقتي ووحدتي، لكنني لم أفترض أنها تفكر في أبعد من «الآن». أحاول أن أُفهمَها أنها أفضل مني وأنني لا أستأهلها، لكنني لا أفعل. أتذكر من المكان الذي التقينا فيه البارحة رائحتها. أخاف على سعادتي، أخاف أن أحسد نفسي، فأهرب إلى الحروف وأبحث بينها عن قليل من بؤسي القديم كي لا أقول إن سعادتي كاملة. فأكتب أنني تغيّرت وأنني لن أهرب هذه المرة من وجه حبيبتي خوفاً على وحدتي وحريتي. أكتب أنني أحببت.

تستطيع في نص أن تحقق المستحيل، أن تعيد تركيب زمن مضى، أن تعيش وهماً من دون أن تسمّيه وهماً، أن يحبّك مَن لا يحبونك، وأن يكرهك مَن تكرههم.

المجلة الالكترونية

العدد 1077  |  آب 2024

المجلة الالكترونية العدد 1077