تحميل المجلة الاكترونية عدد 1077

بحث

مكان في الخيال

أمام الورقة البيضاء أتخيّلُها. أرسمها خيطاً من دخان، غجرية يصعب التقاطها. قالت هدى إنني عشت في عقلها قبل أن تقرر نقلي إلى قلبها. قالت ما قالته لتؤكد أنها مقتنعة بقرار مطاردتي وأنها لن تتخلّى عني. مَن قال إنني أريدها أن تتخلّى عني؟ نصحتُها فحسب، نصحتها بأن تراني على حقيقتي. أنا أعرف نفسي، أعرفها من دون مرآة، أعرف أنني أضعت الكثير من الوقت وأنني لست الرجل المناسب. في كل الظروف والأحوال وفي معظم المواقف، لست الرجل المناسب. لست عريساً مناسباً، ولست ابناً مناسباً، لست مقاتلاً مناسباً، ولست موظفاً مناسباً.

قلت لها ألا تصدّق أعوامي الأربعين، لم أنضج بعد ولن أنضج ولن أخلع خجلي. لكنها مصرّة على الاحتفاظ بي. أتمرّن على الكلام معها قبل الكلام معها. أجهّز جملي وأكوي قمصاني. أذكّر نفسي بأنها طفلة، طفلة في الثالثة والعشرين. ثم أؤدي أنا دور الطفل في حضرتها.
لمَ تؤثر فيّ إلى هذا الحد؟ ما الذي يجعلها قادرة على قلب حياتي؟ أوافقها على كل ما لا أقتنع به. أرافقها إلى أمكنتها، إلى بحرها هي ومقهاها وطبيب أسنانها. أصبحت أكره مَن تكره وأحب مَن تحب. أصبحت لأجلها أكره امرأة لا أعرفها. أكرهها إلى درجة أنني مستعد لأن أضربها وأصفعها بقوة. سأمسكها من ذراعيها وأهزّها وأسألها: لمَ تكرهكِ هدى إلى هذا الحد؟

لا أحد لي هنا إلا هي. أصبحت هي المكان، هي الأمكنة كلّها، هي بيروت وشارع مي زيادة وشقة أمي وهي مكتبتي وأوراقي وكل ما أملك. هي الأمكنة التي لم تزرها، أمكنة ماضيّ، وهي المكان الذي لم يغادرني ولم أجده بعد. هي نسخة حديثة من أمي، نسخة القرن الواحد والعشرين، قوية مثل أمي وحالمة مثلها، جريئة وطيبة القلب وسريعة الغضب. لم يعجبها إنها غرفة الفندق التي أرتاح فيها وإنها أيضاً وسادتي. كان عليّ أن أشرح لها أنني أرتاح في غرف الفنادق حيث أحسّ بأنني ولدت في جسم جديد وأنني أعيش حياة جديد وقصصاً جديدة. ولم يعجبها ما قلتُه لها عن خوف أمي في أعوامي الأميركية الأولى أن أتزوج أميركية، ثم كيف بدأت ترجوني أن أتزوج جارتي الصينية حين أخبرتها أنها تبتسم لي كلّما رأتني وتسألني أحياناً إذا كنت تناولت فطوري قبل نزولي صباحاً إلى الجامعة.

الطريق طويلة، لكنني اعتدت الركض على طرق طويلة. يمتد الإسفلت أمامي، أدوس أسئلتي. لن أتركها. أعود إلى حيث أعرف أنها تنتظرني. أدوس خوفي وألصقه بالإسفلت. لمَ أخاف منها على وحدتي؟ لمَ أخاف منها على فراغ اخترته لأيامي؟ سأغامر بتسليمها تنظيم ولادتي الجديدة. طفلة في الثالثة والعشرين تلد طفلاً في الثالثة والأربعين. أركض عائداً إليها، إلى حيث أعرف أنها تنتظرني. "هدى، أجّلت السفر. ما رأيك؟"

 

المجلة الالكترونية

العدد 1077  |  آب 2024

المجلة الالكترونية العدد 1077