تحميل المجلة الاكترونية عدد 1077

بحث

أمكنة الذاكرة

وصلتُ إلى البيت المهجور. ما زال الطفل في اللوحة يبكي. اللوحة معلّقة في غرفة الصالون منذ أنجبت جدتي ابنها الأصغر. لم يخرج مني البيت يوم خرجت منه.

أمٌّ في المنزل، هذه مهنتي. صحيح أنني أحب القراءة، وكنت أحب الشعر وأؤمن به حلاً للغز كآباتي. لكنني لا أعمل. أربي الولدين وأطيل النظر إلى نفسي في المرآة ثم أؤجل الكتابة وإعادة اكتشافي علاقتي بالكلمات.

طردت أخيراً تعلّقي المرضي بدور الأم. تركت الولدين مع أبيهما والطعام في الثلاجة والثياب مرتبة في الخزائن. تركت منزل الأم التي هي أنا، ومشيت إلى قطعة من كابوس على أرض لئيمة لكنها تحضن أقربائي. أنا سعيدة وراضية عن الحياة التي مضت. لكنني أبحث عن شيء ما ضاع مني. أنا سعيدة، لن أسيء فهم نفسي، لكنني مثل هؤلاء الذين لا يعرفون أن يفرحوا، ويظنّوا الفرح شكلاً من أشكال الغباء.

في حقيبة يدي مفتاح البيت الذي تغطي شجرة الياسمين سماءه. ليس هذا البيت المكان الأول، هو أحد الأمكنة. وليس البيت الأول، هو أحد البيوت. في ذاكرتي الأولى المضاءة بألوان القنابل، في ذاكرتي الطفلة التي نضجت قبل أن تكتمل طفولتها، هو بيت دون أن يقدّم إليّ دفء الشعور بالانتماء إلى المكان. ليس ملجأ أيضاً بالرغم من أنني هربت إليه مع عائلتي من المعارك في بيروت. هو مجرّد مكان بين الأمكنة أرغب في أن أعيد اكتشافه.

 دخلت من الباب الحديد الأحمر الذي كتبنا عليه طفولتنا بالطبشور. عرف هذا البيت طفولتي وما عرفتها أنا أو أحسستُ بها. وربما كانت مرافقتي فتيات يكبرنني سناً السبب في ذلك.

 أذكر أنني رأيته جميلاً مشهد ما سميّناه المدخل بحجارته الكلسية التي تغطي الجدران وببلاطه الأزرق. وصلت إلى فسحة في البيت أحببتها أيضاً، هي شرفة وصالون في الوقت نفسه، وحيث انتشرت قبل عشرين عاماً كراس مختلفة الأحجام والألوان، فما كان تناسق الألوان يوماً سمة هذا البيت.

ينتهي البيت بالنسبة إليّ في تلك الفسحة، وتنمو العدائية ما إن أمشي في الرواق القصير الضيق الذي يؤدي إلى غرفتين متقابلتين وحيث تختفي رائحة الياسمين. فهناك في هذا القسم الشرقي خفت على نفسي. وكنت في أحيان كثيرة أقف على العتبة منتظرة أن تفتح لي عمتي باب الدار، لكنها كانت مشغولة دوماً بالبحث عن كنز في بئر الماء المحفورة في مدخل البيت والمغلقة بما يشبه باباً من حديد. أنا بحثت في البئر عن قصص. وأعود بحثاً عن قصص جديدة.

 وصلت إلى البيت بعد عشرين عاماً من الغياب عنه، وبعدما هجره سكانه. نظّفته بنفسي، حملت إليه الأدوات اللازمة ونظّفت أرضه والجدران كي أمضي ليلتي فيه. خفت كثيراً تلك الليلة بل كدت أموت من الخوف، ليس بسبب وحدتي، لكن بسبب خوفي القديم هناك. خلال طفولتي خشيت دوماً انفجار الخلافات بين جدرانه، وانفجار الأسرار المكبوتة والمدفونة حيّة فيه. خفت أيضاً من معارك الأخوة وخطط الرحيل الموجعة. ولدتْ في هذا البيت حكايات تُكتب الآن نهاياتها. بعض أبنائه فرّ من فشله إلى مدن بعيدة وبعضهم الآخر ينتظر النسيان.

جدي مات منذ أربعين عاماً، وهذا بيته. أنام في سرير جدتي. بالرغم من ضياعها في أعوامها الأخيرة ظلّت حواس جدتي جاهزة للاحتفاء باللحظة. سمعت جدتي الحاجة ما لم يستطع الآخرون سماعه، ولم تخترع الأصوات، اخترعت الصور فحسب. فعاشت في الثمانين مشاهد من صباها وصدّقت أنها تعيشها. تقطف الزعتر وهي في سريرها، وتشتري أساور الذهب وهي مستسلمة للسيدة المسؤولة عن حمّامها. تصرخ بها فجأة. تقول لها إنها لا تشفق عليها من الفرك، وإنها تشوّه جلدها بالليفة التي تعذّبها وهي تروح وتجيء فوق جسمها الهزيل.  

رجوت الليل أن ينتهي وخرجت صباحاً إلى بستان "ظهر المساء" كما يسميه أهل الضيعة. ثم عدت سريعاً إلى البيت وأنا أحلّل علاقتي به. ما يغيظني هو أنني لا أنساه وأنني أنفذ خطة غبية، خطة زيارته بهدف نسيانه وكي أتعرّف فيه إلى شخص آخر كنته. قررت أنني تركت في هذا البيت جرأتي القديمة وحبي المغامرة والتحدي، تركت ما لم أرثه من أهل هذا البيت بل ورثته من أمي ثم أضعته. وقد عدت بحثاً عنه وعني.

المجلة الالكترونية

العدد 1077  |  آب 2024

المجلة الالكترونية العدد 1077