تحميل المجلة الاكترونية عدد 1077

بحث

في التاكسي

تريدُني أن أتذكر. كلّما جلستُ معها طلبتْ مني أن أتذكر. بعد كل ابتسامة تقصفني بسؤال. وبعد كل سؤال ترشقني بابتسامة. تريدني أن أتذكر جغرافيا الشوارع ومناظرها وروائحها والكلمات المعجونة بالطلقات النارية، والمشاريع قبل أن تنسفها قذائف، والمعارك وكلماتها البذيئة. أي سحر تجدينه في بيروت الثمانينات؟ سألتُها.
 أنا لم أكن بطلاً في أعوام الحرب تلك. كنت وما زلت فخوراً بجبني. ولا أريد الآن أن أتذكر. فقد هربتُ من بيروت كي أنسى. وعدتُ إليها كي أنسى أيضاً. اتفقتُ مع ذاكرتي منذ عقدين أو أكثر أن أغطيها بمشاهد جديدة من عالم جديد وبصور من كتب وبلوحات وكلمات لا تؤذي.
قلت لهدى قبل أن يقطع وصول التاكسي جلستَنا إنني كنت خجولاً جداً وجباناً، ولم أستطع تحمّل منظر السلاح، فكيف أحمله؟ «لا لم أحمل سلاحاً»، أجبتُها، «لم أحمل أدوات قتل».
تجبرني على التذكر. أجلس معها لأتذكر، فأخترع لأجلها ذاكرة جديدة.
عدت إلى بيروت ناسياً مشاهد عديدة من الماضي والحاضر. الحياة في أميركا تنسيك حياتك. الناس آلات هناك، يصحون في وقت معيّن ويحشرون أنفسهم في المترو وفي سياراتهم في وقت معين. يمشون مثل آلات طويلة برؤوس وصدور وأقدام، آلات تزينها أكواب طويلة من القهوة، آلات تأكل سريعاً وتنام قبل أن تفكر في النهار الذي مضى.

لا أقول إنني آلة أميركية. ولم تُعد أميركا تصنيعي. ولعلّ عملي الأكاديمي سمح لي بالمحافظة على نوع من الكرامة البشرية.
في التاكسي قالت هدى إن مفاجأة تنتظرني. تصرّ هدى على أن تأخذني إلى أمكنتي القديمة. مَن أخبرها أنني مهتم بالماضي؟ وقد قلت لها: يا عزيزتي، لا يحرّكني أي شوق إلى ماضٍ عشته؟ ارتاحي. لمَ هذا الهوس بأيام حرب لم تعرفيها. «خلص» لا أريد أن أتذكر أي شيء. «أنا أصلاً بنسى كتير وبحب إني بنسى».
سيارة التاكسي تبتعد بنا عن بيروت. تتجه جنوباً. وأنا مستسلم في انتظار المفاجأة. أنا سعيد بهدى، ولا أخفي سعادتي بها. لكنني أقلق أحياناً من هوسها بأسئلة تكررها حتى تخيفني منها. وأظنها الآن اغتنمت فرصة وجودنا في سيارة مع رجل غريب، لتحاصرني بالأسئلة. لم أكن قد أخبرتها أي شيء عن خطيبتي الأميركية. لكنها عرفت، ولا أعرف كيف عرفت، أنني تركتُ هناك قصة من دون نهاية واضحة. وأنا أقع دوماً في فخاخ هدى.
إلى أين تأخذني؟ وتشغلني عن التفكير في الطريق بالتفكير في أجوبة عن أسئلتها.
لمَ لست شاعراً؟ كل ما فيك يوحي بأنك شاعر.
هكذا لستُ شاعراً.

لن تنفع، يجب أن تكون شاعراً كي تحقّق أمي حلمها.
حلم أمك أن تغرمي بشاعر؟
لا، أن تغرم هي بشاعر، ليس الآن، أقصد حلم صباها كان أن تغرم بشاعر يكتب لها الشعر كل يوم. أمي تؤمن بالكلمات.
وأنتِ، أتؤمنين بالكلمات؟
أحسدها لأنها لا تموت.
متى كبرت هدى؟ متى تسنّى لها أن تكبر؟ كنت على وشك أن أسألها هذا السؤال حين فهمتُ أن التاكسي سيحملنا إلى قرية والديّ. ماذا تريد مني هذه الصبية؟ لا أستطيع أن أوقف جنونها خوفاً من خسارتها. كنت قد أخبرتها بأنني لم أزر البيت بعد لأنني أخاف من مواجهة حاضره والماضي فيه. هل أهرب من البيت ومنها أم أتمسّك بهما؟ تناديني وفي صوتها نغمة سؤال، وسريعاً ألبّي النداء.

 

المجلة الالكترونية

العدد 1077  |  آب 2024

المجلة الالكترونية العدد 1077