تحميل المجلة الاكترونية عدد 1077

بحث

عتمة يوم جديد

قبل أن أصحو تماماً، كتبتُ لها رسالة قصيرة هاتفية. لا أذكر ما كتبتُه ولا ما اعترفت لها به. لا بد أنها تضمّنت اعترافاً رسالتي الهاتفية تلك. هربتْ مني إليها كلماتٌ. ثم صحوتُ. في الخامسة صباحاً، في عتمة يوم جديد تحنّ أصواتُ الشارع عليّ بغيابها. أدلّل الهدوءَ وأربّت على ظهره الواسع. تدمع له عيناي. أنا وحدي الآن في عتمة يوم جديد. إنها اللحظة الأصفى. أنا وحدي منذ ٢٢ عاماً. لكنني أبحث منذ وصلتُ إلى بيروت عن وحدة هادئة صامتة لا تنخرها زعقات السيارات والأحرف الكئيبة في جريدة الصباح. هدى تنسيني الجريدة والصباح والضجة. منذ تعرّفت إليها لاحظت تغيّراً في عاداتي. لم أعد أنا والوقت صديقين. لم أعد قادراً على أن أعطيه نفسي. عدتُ لا أريد أن أعطي الوقت وقتي كلّه.

ولا أريد حريتي. ظننتُني حراً أتنقّل وحدي بين الأيام، بين يوم وآخر، وبين ساعة وأخرى. لكنني عرفتُ الآن أنني سجين دور اختارني قبل أن أختاره. أنا حارس كتبي الكثيرة وحامي وحدتي. أعيش منذ ٢٢ عاماً وحدي مع الكتب. وأقرر كل مدة أن عليّ كتابة هذه المقالة الأكاديمية أو تلك وأمنع نفسي من حضور هذه الحفلة أو تلك. أعانق نفسي ليلاً، أعانق وحدتي. الآن قررت أنني لا أريد أن أنضج. سأكتفي بما وصلت إليه من «نضج فكري». سأبدأ مشروعي الجديد. أريد أن دوّن ما التصق بذاكرتي من بداية شبابي خلال الحرب في لبنان. تعود إليّ صور الشوارع ومعاركها، وخرائط لا أدري مَن يرسمها داخل رأسي. منذ عدت إلى بيروت أحلم بأنني ضعتُ في شبكة من شوارع لا أعرفها.
لمَ أريد الآن أن أكتب أيامي؟ مَن أنا لأقرر كتابة سيرتي؟ لست أحداً يمكن أن يُكتب عنه كتابٌ. لكنني لا أعرف مقاومة هذه الطاقة فيّ، هذه الرغبة في أن أكتب عن نفسي، عن ثمانينات القرن الماضي في بيروت وضياعي الأول في أميركا الذي أراه الآن جميلاً.

جاء دوري ولن أفرّط الآن في الفرصة، جاء دوري كي أكتب سيرتي ولو كنت قارئها الوحيد. طالما قرأتُ كتب مذكرات. أبحث في المكتبات النيويوركية عن قسم البيوغرافيا، وأغرق في السير الذاتية، في حيوات تولد مجدداً في كلمات. هذا الإصرار فيّ على كتابة نفسي يخيفني. ربما سأموت. ربما هذه الرغبة في تلخيص حياتي هي الحاسة السادسة التي يتكلّمون عنها، تخبرني بأنني أعيش أيامي الأخيرة.
أريد أن أمضي أيامي مع هدى. هي أجمل مَن يمكن أن يخرق عزلتي. وأجمل قصة يمكن أن تحكيها أيامي الأخيرة.
البارحة سحبتني من يدي إلى حيث تجمّع أصدقاؤها في مطعم «روزا». بدت فخورة بي.  قلتُ لنفسي: ما الذي تريده بعد؟ صبية مثل هدى تريد أن «تشقلب» حياتك. وهي مستعدة لأن تكون دليلي في بيروت حيث عدتُ لا أعرف التعامل مع الناس ومع الجغرافيا ومع الوقت أيضاً.

 

المجلة الالكترونية

العدد 1077  |  آب 2024

المجلة الالكترونية العدد 1077