تحميل المجلة الاكترونية عدد 1077

بحث

يوم مع الطفلة المعجزة

- «من أين تأتي كلماتكَ؟ من أين تأتيكَ القدرة على التذكر؟»
- «ما زلتِ صغيرة، لن تفهمي هذه الحاجة إلى استحضار الماضي. تعلّمتُ أنني يجب أن أتعلّم من الماضي وأن ألزم نفسي بالمقارنة. مشكلة الكثيرين هنا أنهم لا يتعلّمون. وأنا لا أحنّ إلى الماضي بل أكرهه إلا أنني لا أستطيع أن أمحوه، أن أقول إن هذه الأحداث وتلك لم تقع وإنني لم أشهد جنونها.»
وصلنا إلى المكتبة. هنا نصمتُ. هنا أنظر إليها وتنظر إليّ. أتفرّج عليها ولا أحكي. هنا اكتشفتُها. هنا فتحتْ لي أبواب عالم جديد لم أعرفه ولم أهتمّ بمعرفته. بيروت ليست لي وحدي، بيروت ليست أنا وليست أصدقاء كانوا أصدقائي.
عرّفتني هدى إلى بيروت جيلها، هؤلاء الذين يسمعون عن حرب الخمسة عشر عاماً لكنهم لم يعيشوا أيامها ولم يضيعوا في عتمتها.

- محظوظ أنت لأنك كنت في قلب اللعبة، ولأنك تعرف الكثير.
- أي حظ هذا الذي تتكلّمين عليه؟
نقرأ. تفتح هدى كتاباً عن الحرب اللبنانية أهديته إليها. تجلس قبالتي، تمضغ علكتها بهدوء، لعلّها تستمتع بصمتي. أشغل نفسي بقراءة رواية كتبها صديق أضعته منذ طار إلى كندا.
أحدّق إلى وجهها. أشعر بسعادة غريبة، برضا دافئ عن اللحظة. أحس لثانية سريعة بأنني أعرفها منذ ولدتْ، بأنها ابنتي. ثم يحلّ محلّ إحساسي الغريب هذا إعجابي بشغبها. تحرّك حاجبيها، فأعرف أنها تريدني أن أتفرّج على ساقيْ صبية تبالغ بالاهتمام بجسمها وبحركاته. تنتظر هدى ابتسامتي كي تبتسم. حين نخرج من المكتبة أقول لها: «مَن قال إنني أريدك أن ترضيني. أجمل ما فيك أنك تتصرّفين بحرية، فلا تهتمّي بي.»
نمشي من المكتبة إلى بيت صديقي فايز النجّار. جنّ فايز حين رآها. سحبني من الصالون المتواضع إلى المطبخ: أين رأيتها وكيف «مشي الحال»؟ وتقول إنك خجول وهادئ و«في حالك»؟
ضحكتُ. لم يصدق ما قلته له. لم يصدّق أنني غير مهتم بمظهرها أو صغر سنّها وحيويتها. ثمة في شخصيتها ما يجعلني أعجز عن تجاوز حضورها في حياتي، عن نسيانها أو تناسيها، فأحطّم الوعود التي أقطعها على نفسي حين أقرر طردها نهائياً من أيامي ولا أستطيع.

أصحو في الصباح لأراها. أنام لأنني لست معها. فتحت لي عالماً جديداً في مكان كرهته وعدت إليه رغماً عني. صالحتني مع بيروت ومع أهلي ومع الماضي.
«الطفلة المعجزة» أقول لها أحياناً، ولا تضحكها هذه العبارة. «أتعرف، لم أكن يوماً طفلة، أنت الطفل هنا.»
خرجتْ من عند فايز متضايقة. اعتذرتُ عن بساطة الشقة وقلّة نظافتها. «أعرف أنك معتادة الديكورات الفخمة في البيوت وأن طعم قهوتكم مختلف. لكن هذا فايز، لن يتغيّر ولم يحاول تغيير حياته. سافر أواخر الثمانينات، لكنه عاد. يقول إنه لا يعرف ما الذي أعاده إلا أنه لا يفكر كثيراً في الموضوع.»

- «لا أنا مشغولة بالتفكير في ما تفعله عدوتي الآن.»
كلّما تكلّمت على صديقتها السابقة هذه والتي تسمّيها عدوتها، أحار ولا أعرف إذا كانت تمزح أم إذا كانت جدية. لمَ هذا الهوس بامرأة أخرى؟
لا أريد أن أقحم نفسي في قصة غامضة، لكن حقدها يغيظني. حقدها هذا يأخذها مني. لن أسلّمها إلى حقدها على فتاة لا أعرفها. سأُدخل نفسي إلى قلب القصة. أريد أن أفهم. «هدى إحكي لي. ما الذي حصل ولمَ كل هذا الحقد؟ هدى كوني لي أنا وحدي».
«سأحكي» قالت، «إذا رافقتني إلى مدينة الملاهي. ما رأيك؟»

 

المجلة الالكترونية

العدد 1077  |  آب 2024

المجلة الالكترونية العدد 1077