تحميل المجلة الاكترونية عدد 1077

بحث

حقيبة جاهزة للإقلاع

مشينا إلى البيت، تسلّقنا الليلَ إلى أضواء البناية البعيدة وسط غابة البنايات البيروتية القبيحة. قلت لهدى إننا يجب أن نفكر في ما تقودنا إليه لقاءاتنا اليومية ويجب أن نكون أكثر عقلانية. غيّرتْ الموضوع، لكنها لم تتجاوز ما قلتُه، لم تهمله أو تنسَه. وقالت إنها تريدني ضيف شرف في حفلة تقيمها نهاية الأسبوع.

«حفلة؟ بمَ تحتفلين»، سألتُ.

«بك»، أجابت سريعاً. وأنا انتظرت منها هذه الإجابة السريعة.

بيننا عشرون عاماً. كنت إنساناً آخر منذ عشرين عاماً.

«لا أحضر الحفلات، ولا تهمّني» ثم وجدت نفسي أقول لها «لا تتعلّقي بي».

لم تقل في تلك اللحظات الحرجة إن كلامي أزعجها. انتظرتُ منها أن تحتجّ وتناقش وتعترض. بدت أكثر هدوءاً من ليلنا الهادئ.

في الصبح انتظرتُها في المقهى، ولم تأت.

تعلّقتُ أنا بها. شعرتُ بالندم على ما قلته لها. وفكرت في أنني أعاقب نفسي بإبعادها. اتصلتُ بها وقلت إنني قبلتُ دعوتها إلى الحفلة وإنني لن أتحمّل زعلها. «إنسي ما قلته البارحة عن أنني لا أريد التعلّق بك. إنسيه الآن، وقولي إنك نسيته».

كيف تحوّلت قصة عودتي إلى بيروت قصة حب؟ طوال حياتي خفت من أن أتعلّق بأحد. هربت من قيود العائلة إلى الغربة حيث تركت امرأة سميّتها حبيبتي لأعود إلى غربة ثانية في وطني الأول. يجب أن أعترف بأنني مهووس بهدى لأنني معها لا أخشى الكلام. أسرد لوجهها كل ما أفكر فيه وأطرح عليه أسئلة لا أنتظر إجابة عنها.  

- «أتعرفين، كانت بيروت أجمل خلال الحرب».

- ضحكت هدى. «ليه لأنو البنايات كانت قديمة ومكسّرة»

- «كانت مدمرة بس كان فيها روح».

- لا أريد أن أصدقكَ أو أن أقتنع بكلامكَ. تتكلّم على الحرب كأنها حربك أنت، كأنك بطلها والضحية الوحيدة في الوقت نفسه، كأنك تتكلّم على أيام قديمة لم نعشها ولا نعيشها الآن. أعرف ما هي الحرب، أعرف الحقد جيداً وأحس به وأستمتع به أيضاً.

تشرب هدى الحياة. تريد أن تعرف كل شيء وتلمس كل شيء وتحكي كل شيء. لم أستطع ألا أحبها. لم أستطع أن أتعلّم منها حب الحياة من دون أن أتعلّم حبها أيضاً. لم أكتف بقليل من حياتها أروي به موتي اليومي. نسيت ما عدت لأجله، نسيت ما تركته في أميركا وما لم أتركه. تغيظني هدى بسؤالها:

- أين أرسم هذا الخط الذي تحدثت عنه البارحة، أين أرسمه بيني وبينك؟

- أنت لا تعرفين كم تغيّرت لأجلك، كم غيّرتني.

أحبها لكنني حين أدخل البيت، أمشي سريعاً إلى حيث تنام حقيبتي بانتظار ساعة الصفر. ليست حقيبتي السوداء، حقيبة السفر، فارغة، فيها ثياب وكتب وصور وماكينة حلاقة ومقص للأظفار وملقط وكل هذه الأشياء التي أبدأ بها صباحاتي.

ليست حقيبتي فارغة. ولأنني لا أثق بالاستقرار في أي مكان، فهي جاهزة دوماً للإقلاع وأنا خارجها جاهز لكل الأمكنة.

المجلة الالكترونية

العدد 1077  |  آب 2024

المجلة الالكترونية العدد 1077