تحميل المجلة الاكترونية عدد 1077

بحث

المجهول وصورة الفتى

ألا أستطيع ألا أكتب؟ ألا أستطيع ألاأكون كاتبة هذه الكلمات الآن هنا؟ لا أريد أن أمضغ اللغة وأمطّ الكلمات ثم أسحقها. أنظر إلى الصورة في الصفحة الأولى من جريدة الأمس، صورة فتى في الثالثة عشرة ربما مرتدياً بنطلون جينز وقميصاً قطنياً مخططاً. يلتفّ حول معصم الفتى نجم الصورة سوار أسود معلناً بداية مراهقته. لكن وجهه وجه طفل، وهو يغمض عينيه لا خوفاً أو استسلاماً بل لأن سيناريو الرعب أصبح مملاً. وتطوّق عنق فتانا ذراعُ جندي مريض بالكراهية، وتقبض على يده كفُّ جندي ثانٍ مريض بدوره بحقد موروث.

 هي صورة بين الصور اليومية التي نراها على شاشة التلفزيون أو في صفحات الجرائد وبعض المجلات أو المواقع الإلكترونية. هي إحدى الصور «الحضارية» للقمع الوحشي الذي يمارسه مَن يتباهون بالديمقراطية في عالم غير ديمقراطي وبأن آباءهم وأجدادهم جاؤوا من أوروبا «حامية حقوق الإنسان، كل إنسان». 

في زمن يصعب فيه إخفاء الصور وعرقلة النقل الحيّ وطمس التفاصيل المرئية، في زمن اليوتيوب والفايسبوك والكاميرات المتطوّرة في الهواتف النقّالة، كيف يمكن للحقيقة ألا تُرى؟ وكيف يمكن أن تبقى الحقيقة، حقيقة الظالم والمظلوم، مشرذمة ومقسّمة إلى حقائق متضاربة؟ فلنضع الاقتناعات والمعتقدات جانباً، الأدلة واضحة وملموسة وملوّنة وغنية وموجعة. الصورة حيّة، الصورة يَقِظة. ويمكننا بفضلها أن نطبع قبلة على جبين الطفل وهو يقاد إلى تجربة تسرق منه طفولته. يمكننا أن نحسّ بما يحسّ به حين تحيط به أنفاس عدويّه ويحتكّ جلده بجلدهما. نمدّ يدنا إلى الصورة ونكاد أن نصلح قبة قميصه القطني قبل أن يسحبه إلى المجهول كائنان مبرمجان على الكره والقتل، وهما في الصورة نفسها مدجّجين بالأسلحة معتمريْن خوذتي القتال، قتال الأطفال.

 تسمح لنا الصورة بأن نكتشف ونفكر، بأن نضع أنفسنا مكان الصبي ونختبر إحساسه لربع ثانية أو أقل. وتسمح الصورة لنا بأن ننفذ إلى إنسانيتنا لثوانٍ، فيحرق قلبنا الظلم اليومي. لكن ثمة  طبعاً مَن لا يرى الصورة، ثمة مَن ينظر إليها ولا يراها، ثمة مَن ينظر إليها ولا ينظر فيها. لكنها تبقى حقيقية أكثر من كلامنا، أكثر من علك اللغة وتقصيرها.

في تلك اللحظة من الزمن أخذ الجنديان الفتى إلى المجهول. في تلك اللحظة ترك وراءه البيت وأمه وأباه وأخوته وأصدقاءه والحيّ والشارع والمدرسة والكتب والحقيبة والألعاب والأفلام والأقلام. خرج من عالمه إلى عالم تترك لنا الصورة وجع تخيّله، وهي هنا أيضاً أبلغ من الكلام وأشد تأثيراً منه.

 

المجلة الالكترونية

العدد 1077  |  آب 2024

المجلة الالكترونية العدد 1077