تحميل المجلة الاكترونية عدد 1077

بحث

أغلى من الدهشة

تتعبني جرأة المدافعين عن آرائهم مهما كان ثمنها باهظاً. تتعبني لأنني أغار من أصحابها وأدرك أن اختيارها صعب ومكلف. هكذا أتعبتني جرأة الأكاديمي الأميركي نورمن فينكلستين الذي تابعتُ تفاصيل حياته في فيلم وثائقي بعنوان "الأميركي الراديكالي: محاكمات نورمن فينكلستين" افتتح أخيراً مهرجان بيروت الدولي للأفلام الوثائقية. يرفض فينكلستين اليهودي جرائم إسرائيل بحق ماضي الفلسطينيين وحاضرهم. يسمّيها جرائم، يدينها ولا يخاف من الكشف عن تزوير حقائق التاريخ وحقائق الحاضر أيضاً.

يضيء الفيلم على شخصية الأكاديمي المثيرة للجدل وأسلوب حياته. نستمع إلى كلامه على أمه التي كان لها التأثير الأبرز في دفعه إلى رؤية الأمور من منظار مختلف عما يمكن أن يراه أي أميركي غيره. نجت والدته من معسكرات الإبادة النازية في بولندا، لكنها فقدت أفراد عائلتها كلّهم. ولأنها خرجت حية من أتون الحقد لم تعترف بالحقد وسيلة لتعميق الوجود والسيطرة على الآخرين. هاجرت والدة فينكلستين مع زوجها الثاني (والده) إلى الولايات المتحدة حيث ولد نورمان الذي اعترف بأن حياة أمه دارت حول تحليل مستمرّ للحرب (الحرب العالمية الثانية التي عاشتها)، لما جرى ويجري بسببها، حتى كلمات الأغاني، أغاني الحب أو الأغاني الشعبية، حمّلتها الأم دلالات مرتبطة مباشرة بالحرب. وقد أثّر ردّ فعلها الهستيري، كما وصفه ابنها في الفيلم، تجاه مآسي الحرب ومأساة فقدانها أهلها، في ابنها واختياراته ومواقفه وأفكاره الرافضة للعنف والظلم.

تتابع كاميرات مخرجي الفيلم، ديفيد ريدغين ونيكولاس روسييه، نورمان فينكلستين في أنشطته المختلفة في أميركا ورحلاته من كندا إلى اليابان ثم بيروت حيث يشارك في مؤتمرات ومحاضرات تتمحور حول نقده لسياسات إسرائيل وممارساتها في المنطقة. وخلال محاضرة في جامعة كندية يرفض دموع فتاة من الحضور متأثرة، كما ادعت، بإهانته أقربائها عبر كلامه على استغلال الإسرائيليين المحرقة النازية (كما شرح في كتابه «صناعة الهولوكوست»)، وعلى سعيهم الدائم إلى الاحتفاظ بالتعاطف العالمي معهم وإلى أن يبقوا الضحايا الأبديين بالرغم من أنهم أشرس الجلادين.

يعرض الفيلم أيضاً مقابلات مع «أعداء» فينكلستين من الأكاديميين مثل أستاذ القانون في هارفرد ألان ديرشويترز الذي استعمل نفوذه كي لا يحصل نورمان على المنصب الأكاديمي الثابت في جامعة دي بول وبالتالي يترك الجامعة ويعود غير قادر على أن يجد له مكاناً في الجامعات في أميركا.

بين الأحداث والحوارات والصور التي تصنع الفيلم تصرخ لنا وحدة نورمان. نراه وحيداً متمسكاً بحقيبة يحملها على ظهره، وحيداً في أمكنة مظلمة كئيبة كشقته البسيطة ثم وحيداً في إقصائه عن وظيفته وفصله عنها بحواجز يصعب تخطيها. لكننا ندهش لغياب الندم قبل مواقفه وبعدها، يختار المواجهة من دون تردد ويتحمّل الثمن الباهظ. يظهر واضحاً شغفه بالدفاع عمّا يؤمن به وعن مواجهة القوة بالحقيقة.

بعيداً عن التعاطف معه والإعجاب به أو الاعتراض على مواقفه ورفضها تبقى مسألة الاختيار هي الأصعب والأهم. هو اختار المواجهة واختار اللعب بالنار مدركاً تماماً أن معجزة لن تنقذه. هل كان يمكن ألا يجازف بأيامه وأن يلعبها بطريقة مختلفة كما قالت صديقته الإسرائيلية في الفيلم؟ نادرون هم هؤلاء الذين يدافعون عن رؤيتهم للحق دون تنازلات. نخاف من عزيمتهم فنخترع لهم أساليب للخروج من نفق يهدد به الأقوياء، ونشفق عليهم أحياناً ثم ننتبه إلى أن شفقتنا ليست في محلّها. وربما يقول البعض إن هؤلاء يبحثون عن جذب دهشة الآخرين، لكن الثمن الذي يدفعونه أغلى من الدهشة مهما كان حجمها. أما الشفقة فهي تليق بالجبناء.

 

المجلة الالكترونية

العدد 1077  |  آب 2024

المجلة الالكترونية العدد 1077