تحميل المجلة الاكترونية عدد 1077

بحث

شريطة بنفسجية

لفّت البائعة الأنيقة الشريطة البنفسجية حول أعناق الزهور. تخرج الحروف منها ببطء وهي تشرح لي سبب اختيارها اللون البنفسجي ثم تحرّك بإصبعها طرف نظاراتها. كلّما ركزتْ بصرها على عملها اليدوي تأملتُها. شعرها قصير أسود وشفتاها دوماً ملونتان بالأحمر. يمكن أن أمضي عندها صباحي كلّه. لكنها انشغلت بزبون جديد.

قررتُ أن يومي سيكون جميلاً، وأنني أستطيع أن أشتري لنفسي باقة من الزهور. بعد ليل طويل من التفكير وتقويم قرار عودتي النهائية إلى بيروت، صحوت إنساناً آخر. غادرتني كآبتي التي أدرك تماماً أنني ورثتُها مثلما ورثتُ قامتي الطويلة ونظري الضعيف وأصابع يديّ التي تعجب النساء.

أمشي حاملاً باقة الزهور. كانت أمي تخجل من اهتمامي بالنبات في بيتنا. "هذه هواية الصبايا" قالت لي مرة. هنا لا أستطيع ألا أكون ابن أمي. لا أستطيع أن أكون لا أحداً. لا يمكن أن أمشي وألا يراني أحد أو أن يراني أحد ولا يبالي برؤيتي. هربتُ من لبنان بحثاً عن أن أكون غير مرئي.

لماذا يحدّقون إليّ وإلى زهوري البنفسجية الآن؟ ولماذا تهجم عليّ صبية حاملة مايكروفون يرافقها شاب حاملاً كاميرا؟

"نعم؟".

"متى برأيك ستتألف الحكومة؟".

فكرت خلال ثانية أن أعطيها باقة الزهور، لكنني تمسّكت بزهوري وابتسمتُ للكاميرا.

لم يتغيّر شيء. كأنني لم أغب عشرين عاماً. ألا تتغيّر الأسئلة في هذا البلد؟ لكن الشوارع تغيّرت وأسماء المحلات أيضاً. أحضن زهوري لعلّها تؤخر ذبولها. دخلتُ معرض رسوم في الحمرا تعجبتُ من أنه لا يزال في مكانه. أستطيع أن أترك زهوري هنا، أن أعطيها للسيدة الجالسة وراء المكتب. تركتها على طاولة المكتب وقلت للسيدة إنني كنت سأعطيها لخطيبتي لكنها لن تستطيع الانضمام إليّ في المقهى حيث اتفقنا على اللقاء، وإنني أريد أن أعبّر بإعطائها زهوري البنفسجية عن تقديري لمقاومتهم في هذه الصالة سيطرة محلات الثياب على المنطقة. "هم يعلّقون جينزات وأنتم تعلّقون لوحات".

كان عليّ بعد مقدمتي الطويلة أن أتأمل كل لوحة خلال دقائق طويلة. وبالرغم من أنني أستاذ في الرسم ورسام فاشل، كما قيل لي مرة، إلا أنني تعذّبت لأخفي نفوري من الأعمال الفنية المعلّقة. اليوم لن أدافع عن آرائي، لن أجادل وأناقش وأقاتل، بالكلمات طبعاً، لأدافع عن آراء لا تلتزم الأطر المقبولة والمعروفة هنا.

عدتُ إلى بائعة الزهور وطلبت منها باقة ثانية «على ذوقها»، اختارت اللون البنفسجي مجدداً وقدمت لي الشروح نفسها التي قدمتها في الصباح الباكر. وبعدما لفّت أعناق الزهور بالشريطة البنفسجية قدّمتُ الباقة إليها. أشعر بأنني أستطيع أن أكرر السيناريو نفسه كل صباح، وأرجو ألا تغيّر بائعة الزهور رأيها بي أو تقول ما يقوله حارس البناية وجارتي عني:

«هذا الرجل غير طبيعي».

المجلة الالكترونية

العدد 1077  |  آب 2024

المجلة الالكترونية العدد 1077