تحميل المجلة الاكترونية عدد 1077

بحث

سلام

كان الشاي بارداً لكننا لم نهتمّ. «منذ متى تستطيعين ابتلاع الشاي بارداً؟» لم أجب. أركض في شوارع خالية من الناس. لم يحن موعد الغداء بعد، الكل مشغول بترتيب أمور العالم في منطقة البيت الأبيض حيث ترتفع معظم مباني مؤسسات الدولة. الكلّ ينتظر استراحة الغداء لينقضّ على السندويشات ويكرع الشراب الأسود قبل أن يعود إلى حصّته في نبش المشاكل و«الحلول» وتفكيك حرف أو ربع حرف من كتاب العالم الأميركي الداخلي أو الخارجي.

للهواء موسيقى خاصة في واشنطن. أنت الآن في أميركا، فاكتشف سرّ قوة بلد لا يقفز ذكاء أبنائه إليك. إكتشف، إكتشف. السماء هنا زرقاء، ومن هنا يُحكم العالم. تلاحظ رجال أمن في أزياء مدنية وربما جواسيس يطوفون حول المتاحف التي تتوق إلى زيارتها لأن لا متاحف في بلدك. تزور أيضاً المقاهي والجامعات. المكتبات أيضاً لا تشبه المكتبات في بيروت، تستطيع أن تأويَك خلال يوم كامل أو بعد ظهر يوم أحد يشبه كل الآحاد. التاريخ هنا يافع في أماكن تفخر بأنها «تاريخية». ماذا أعطاك الأرز البطل في الملحمة الأقدم «ملحمة غلغامش»؟ ماذا قال لك الأرْز؟ أية أسرار منحك، فاستعملتَها لصالح تطوّرك؟

نقرأ في الصحف عن اجتماعات تعقد لأجلنا وأوراق تكتب لنا وعنا. وننتظر القرار. هم يقررون قبل أن يرسموا عنا فكرة، مجرد فكرة. ثمة بيننا من يزحف إليهم ويظنّ الطفل فيهم قادراً على تخليصه من ورطة أو دفع المجد إليه. ويظن مَن يجاهر بأنه عدوهم كلّهم أن كلاً منهم يحمل الحقيقة المطلقة بين يديه. وبعضهم في الشوارع والمطاعم يغرقون في عوالم مختلفة، في صحن أرز صيني بالدجاج أو السمك، يجرّون أطفالهم إلى مهرجان فني في الشارع.

أنت الآن في قلب عاصمة القرارات العالمية، فابتسم لامرأة سمينة مقبلة نحوك ولأعمال تخلّد ذكرى حروب قيل إنها وقعت باسم الحرية. أسماء الأموات محفورة على الرخام والذعر محفور في وجوههم البرونزية. أهي الحرية نفسها منذ الحرب العالمية الأولى إلى الحرب العالمية الثانية إلى الحرب الكورية إلى حرب فييتنام وحرب العراق؟ حروب لأجل حريات بعيدة عن طبق البيض والنقانق والفطائر المحلاة وفنجان القهوة السوداء.

إبتسم أنت في عاصمة القرارات العالمية، النهر إلى يمينك ودار الأوبرا إلى يسارك. الأجوبة كلها تذوب في عمل فني، في منحوتة بديعة، في عظمة الاهتمام بالعروض الفنية والحرص على تقديمها للجمهور، في المسارح والأغاني التي لا تنسى. هنا تنسى الفروق الاجتماعية والثقافية. هنا تتحسر على غياب المتحف ودار الأوبرا عن بيروت. يقطع الشباب المبدعون عندنا الحدود ويعودون ليقدّموا إلينا تجاربهم المتأثرة بتجارب الآخرين، هم المسافرون الذين نحتاج إلى سفرهم كي نعيش في قلب ما يجري في العالم بالرغم من أننا نقطة في كتاب العالم أو علامة استفهام أو علامة تعجّب يحملها البعض كأداة ضغط فحسب. من واشنطن عاصمة القرارات العالمية التي تذكر أحياناً كثيرة بالقرى، سلام إلى مدينة مزعجة مجنونة ممثلة كاذبة مريضة أحياناً قبيحة أحياناً أخرى لا نعرف العيش إلا في قلبها.  

 يقطع الشباب المبدعون عندنا الحدود ويعودون، هم المسافرون الذين نحتاج إلى سفرهم كي نعيش في قلب ما يجري في العالم

 

المجلة الالكترونية

العدد 1077  |  آب 2024

المجلة الالكترونية العدد 1077