تحميل المجلة الاكترونية عدد 1077

بحث

يومين مع اسطنبولي أصيل

أسرار الليل في أضوائها، وفي حقيبة صغيرة على ظهر مؤرخ شاب أو روائي عالمي جعلها بيته وعالمه وحملها فيه إلى إمبراطورية العالم الجديد. لا تتوقف الحياة في اسطنبول، ولا تتوقف الأسئلة عن نقر فضولي: ما الذي يجعل الفيلسوف فيلسوفاً والرسام رساماً والروائي روائياً؟ وما الذي يمنع الوحش من أن يكون وحشاً؟

يمشي الفيلسوف الإسطنبولي الصغير ليتحدث مع المدينة، وبين الخطوة والخطوة يغني لها. ويتحدّث بحنان مع سائق التاكسي ­ويخبره أن الوصول إلى قلب المدينة يكون بالتعرّف إلى أحيائها الفقيرة قبل مناطقها الثرية وإلى لمحات من القبح فيها قبل لوحات الجمال. تكلّم طويلاً على زحمة السير، وفي اليوم الثالث جرّبناها كي نفهم اسطنبول القرن الواحد والعشرين. وفي السيارة قال إنه اشترى مرة دراجة نارية وإنه أحبّ ممثلة مكسيكية. «مدينتي الجميلة تغرق في الحياة الجديدة»... «مدينتي القديمة تغرق في الحياة الجديدة»... أغنية اخترعها وغناها حين وضع وجهه في حقيبته.

أفكر في بطلتي التي تنسى وفي أن النسيان نسيانٌ في بيروت وفي اسطنبول. تختفي الأحرف من الكلمات ثم تختفي الكلمات ثم تختفي فكرة الكلمة. كل حقيبة سفرٌ إلى عوالم خارجية وأخرى داخلية، إلى أسرار وأحلام وقصص، إلى صفحات من التاريخ المكتوب ورواياته المختلفة والمتناقضة في معظم الأحيان. ويمكن لاسطنبول العريضة الطويلة الشاسعة العميقة أن تكون قصيدة أو وردة في أسطورة من أساطير العالم. وفي اسطنبول لأجل المستقبل يُعلّق التاريخ على الجدران، لا يُفتّت أو يؤكل أو يُحكم عليه بالنسيان أو بالغرق في رمال الصراعات المتحرّكة. في اسطنبول التاريخ حاضر. وفي مدينة أخرى أعرفها جيداً الموت معلّق على الجدران والإسفلت، والتاريخ غائب ولا يمكن اللعب معه بالكرة.

في أسواق الحياة الآتية من التاريخ على بسط حضارة الغد عثرتُ على عطر المدينة. شربنا الشاي على ظهر المتحف، تغذينا رقيّاً قبل أن يتسنّى لنا الغوص في رحلة إلى السوريالية، إلى سلفادور دالي وجنونه المضحك وحكمته الساخرة وساعاته الذائبة في لوحات صدمت دالي نفسه قبل أن تصدم الجمهور.

ثم خرجنا إلى البحر في رحلة بين التاريخ والمستقبل. أما الحاضر، فلا نملكه ولا نشغل أنفسنا به. يمكن أن نتيه عن الحاضر خلال يومين أو ثلاثة أيام. يمكن أن نبتسم للمصوّر تحت قبّة مكان فقدت أحجاره قدسيتها، لكنه لم يتغيّر ولم يُعدم أو يقضَ عليه. هناك فقط خارج الحياة اليومية وخارج مدينة سمّيتها مدينتي ومكان اعتبرته مكاني يمكن الاعتراف بحقائق الآخرين، بأن الأزرق ليس أزرق بالضرورة وأن الحقيقة ليست واحدة.

رائع أن تطوف مع فيلسوف في مدينة منحت التاريخ أسماءه وأعطته طفلاً جباراً، وأن يكون الفيلسوف قد فكر في الحب والموت وهو يتمشى في المدينة. قالوا في الطائرة إن "سترة النجاة تحت المقعد"، لكنها خلال يومين أمضيناهما في اسطنبول كانت في حقيبة التصقت بظهر فيلسوف كي يسهل عليه التجوّل في المدينة حين يفكّكها ويعيد ترتيبها بيديه الاثنتين.

المجلة الالكترونية

العدد 1077  |  آب 2024

المجلة الالكترونية العدد 1077