تحميل المجلة الاكترونية عدد 1077

بحث

نصف عودة

عدت من زيارة إلى الموت. حاولت هذه المرة ألا أنتبه إلى التفاصيل، وأن أغمض عينيّ وأغيب في سواد اللحظة أو بياضها. في صغري كنت أتمرّن على أن أغمض عينيّ لأركز على ألا أفكر في أي شيء. ضحكتُ على نفسي وما زلت أضحك عليها. وحين أغمضت عينيّ خلال زيارة الموت رأيت شعري على الوسادة ليلة نمت في بيت يسكنه الكذب. كنت طفلاً بشعر طويل، هذا ما أذكره من طفولتي الأولى.

كلما تواجدت مع الموت في غرفة واحدة بحثت عن بداية جديدة لحياتي، عن نقطة انطلاق من نوع جديد. وبعد أن أعود من زيارة الموت أركز على ترتيب أولوياتي، وأجد فجأة خططي مرتبة وتظهر فيّ صور من الماضي ظننتُني فقدتها.

عدت الآن من طقوس الوداع في موت جديد. وبكيت لأن الموت يستطيع أن يكون جديداً كل مرة. بكيتُ. أنا رجل يجيد البكاء الذي أحبه. ولا يهمّني ما يقال عني، هذا ما تعلّمته من الحياة في الخارج، وهذا أجمل ما يمكن أن يحصل في حياة شخص مثلي. هكذا تعلّمت أن أتحرّر. وقد تمرّنت على التحرّر من آراء الآخرين بي، وتمرّنت أيضاً على أن أصدمهم ثم نجحت في صدمهم. أنا رجل حساس. بكيت اليوم في وداع جارنا الذي لا أعرفه والذي كان يعمل في إفريقيا عشرين ساعة في اليوم كما قال أولاده.  

بكيتُ. وكان صوت الماضي أقوى من صوت حزني. يمكن لأي شيْ أن يقتلني الآن من فرط ضعفي. ورقة أنا، لا أحد مثلي، كائن غريب لا يرى مثله أحد.

عدت من نيويورك إلى قريتي في جنوب لبنان. عدت لأجد أن لا شيء تغيّر في القرية منذ طفولتي القديمة. لكنني سمعت بنات عليا صديقة أمي يتكلّمن بالفرنسية بعدما ألبسن أسماءهن أقنعة وأردية.

أنا رجل حساس، أرى نفسي في دمعة أمي وأخاف من كوابيسي. وحين أنام ليلاً أنثر الكتب حولي من هنا وهناك وأنتظر أن أموت. أمي المريضة بالنسيان بكت في غيبوبتها. أخاف من استسلام أمي المريضة بالنسيان لقوة تسحبها بعيداً عني. حملتُها إلى بيتنا في القرية لعلّها تعود من غيابها الأبيض، وقد عادت نصف عودة. أردت أن تصحو أمي من النسيان، فعادت إلى واجهة ذاكرتي صور تمرّنتُ على نسيانها. عاد إليّ الماضي بكوابيسه. ورأيت كوابيسي حية، رأيت أبطالها يتنفسون ويمشون على الأرض ويتفرّسون في وجهي. تختفي أنيابهم ثم تظهر... وللأحمر في عيونهم رائحة الدم. لا يعرفون أنهم أوجعوني ليلة نمت في منزل جدي أرضاً، حملت وسادتي إلى تحت السرير ونمت. سمعتهم يكذبون. سمعتهم يقولون إن أبي تركني ولم أصدقهم، لكنني منذ تلك الليلة لم أرَه ولا أذكر من أيامي معه إلا صوت ضحكته. تعود إليّ تلك الليلة كل ليلة منذ حملتُ أمي إلى القرية.

المجلة الالكترونية

العدد 1077  |  آب 2024

المجلة الالكترونية العدد 1077