تحميل المجلة الاكترونية عدد 1077

بحث

رؤوس الكتب

قبلت دعوة هدى. وصلتُ إلى بيتها صباحاً، ولم أكن قد شربت قهوتي. قلت لنفسي إنني سأشربها مع هدى وسيكون طعمها مختلفاً. هدى التي اكتشفتها في بيروت واكتشفت بيروت الجديدة فيها، تصرخ لي من الشرفة أن أصعد لأنها لن تنزل إلى المقهى. وضعت كفي على أذني مشيراً إليها بأن تطلبني على هاتفي المحمول، لكنها لم ترد. لوّحتْ بيدها وبدأت تقفز، فصعدت. البيت دافئ وصامت، يسكنه هدوء أنيق ينسجم مع أشعة الشمس المتسلّلة من الواجهة الزجاجية إلى الصالون وأريكته البيضاء. البيانو الأسود أغراني بالعزف عليه.
«لا تقل إنك تعزف على البيانو أيضاً؟ أخَرجتَ إليّ من فيلم؟»
ثم سبقتني إلى المطبخ، وقبل أن ألحقها فكرت في أن أجول في البيت لكنني لم أكن مرتاحاً. ثم ظهرت أمامي حاملة صينية عليها فنجانا القهوة التي وعدتني بها.
- أهلا وسهلاً، قالت.
- لماذا تضحكين؟ هل منظري مضحك إلى هذه الدرجة؟
- تجلس كأن قنبلة تحتك، استرخي، «شو مهذب»؟
- وهل أنت بلا تهذيب.
- مقارنة بك أنا قليلة الأدب.
- أين المكتبة التي أخبرتِني عنها؟
في غرفة منفصلة عن غرفة الصالون، ارتفع عدد كبير من الرفوف ليغطي الجدران بالكتب. 
أنا مثل والدك لا أستطيع أن أرمي كتاباً. أزيل الغبار عن كتبي كل يوم. أطبّق ما يفعله أبو عادل في مكتبة الجامعة الأميركية حيث أذهب كل يوم منذ عودتي إلى بيروت لأراقبه. يحمل أبو عادل الخرقة الصفراء ويمشي على مهل ممرراً الخرقة على الخشب وعلى رؤوس الكتب على مهل. لا بد أنه درس حركته وجرّب السرعات كلّّها حتى اختار السرعة الملائمة. لكنه خلال طقس إزالة الغبار هذا يميل بجسمه نحو الكتب، يقترب كتفه من الرف الخشبي، فيمشي مائلاً نحو جهة واحدة. هكذا أصبح أبو عادل يمشي دوماً مائلاً بجسمه نحو جهة واحدة.
- لا أعرف إذا كان أبو عادل يحب الكتب.
- لا شك أن علاقة قوية تربطه بها، فهي مصدر رزقه والاهتمام بها يسمح له بأن يرسل أولاده إلى المدرسة على حساب الجامعة. لا بد أنه يحبها وربما يقبّلها أحياناً ويشتمها أحياناً أخرى. الكتب قدّمت إليه أيضاً مكانه، فهو مسؤول عن نظافة الطبقة الأولى من المكتبة، من نافذتها يستطيع أن يرى البحر وزرقته وأن يمتّع نظره بلون الأشجار ويعيش في زواياه بعيداً عن لون بيروت الرمادي وعن ضجة تركيب بنايات تسكنها أشباح مستثمرين.
- لم لا تكتب ما قلته لي الآن؟
- لا أستطيع. أنا لم أرث الإيمان بالكلمات، لم أرث مكتبة مثل والدك ومثلك. ورثت أموالاً هربت منها، إلى آخر الدنيا هربت. أزعم أنني صنعت من نفسي الشخص الذي أردته بعيداً كل البعد عن أهلي. وقد قرأت واكتفيت بالقراءة. لم أنجز شيئاً. لم أترك أثراً، أفكر في أن أكتب كتاباً عن السجاد، عن أي شيء فقط كي أقول إنني أنجبت شيئاً، أن شيئاً خرج مني. 
قبل أن أكمل بوحي، قررت هدى أن الشقة تخنقها وأننا يجب أن نغادرها. لم أقل لها إنها هي صاحبة فكرة صعودي إليها وإنني أريد أكثر منها أن نلتقي على الكورنيش أو في المقهى. في خمس ثوان أصبحنا خارج البيت. لحقت بهدى متسائلاً مَن الفاقد أعصابه بيننا هي أم أنا؟

المجلة الالكترونية

العدد 1077  |  آب 2024

المجلة الالكترونية العدد 1077