تحميل المجلة الاكترونية عدد 1079

بحث

مكنسة الساحرة الشريرة

أعرف ما فعلتُه وما لم أفعله. أعرف ما أحسستُ به وما حاولتُ الإحساس به. لكن ثمة لحظات لا أعرف تفسيرَها. أفقد خلالها السيطرة على مخيّلتي. أطلب من عقلي أن يقمعها ولا أستطيع. يخترقني تيار من المشاعر غير المكتملة، من ذبذبات الدفء. أحب في تلك اللحظة العالم كلّه، أحبّ مَن لا يجب أن أحبَهم. أستطيع أن أكون رجلاً وأن أختبر هذا الضياع الجميل، هذا المزيج العجيب من الأحاسيس. أواجه الشمس. أنزل تحتها إلى الجزء الخفِض من قريتي التي أعدت اكتشافها. أزور الحي «التحتاني». ألامس سور المقبرة. هنا دُفن أبي، ودُفنت معه رقّة أمي وحقّي في أن أكون ابناً، ابن رجل، وأن يكون لي أب.

سلّمتُ على أبي. ابتسمتُ. لو كانت حبيبتي الأميركية «إيما» معي لابتسمت بدورها.

لا يحبوننا في هذه القرية. يحقدون على كل من يستطيع العيش خارجها والعودة إليها زائراً. أهل هذه القرية لا يعرفون الحب، لكنهم يكذبون. ليسوا صادقين مع أنفسهم ومع الغير. يمثّلون ولا يجيدون التمثيل. وربما يلجمهم الكذب ويمنعهم من أن يتقاتلوا أو يمارسوا أنواع العنف المختلفة التي يحلم بها شبانهم. لن يفهموا وجودي المفاجئ بينهم، ولم أشرح لهم أسباب عودتي. لن يفهموا كيف يغيّر رجل حياته لأجل أمه ويحاول السيطرة على وقته لتمضيته معها؟

أوقفتُ كل شيء لأرى نفسي في أيام أمي، لأرى وجهها في أيامي الماضية وفي الأيام الآتية أيضاً. أنا أيضاً سأحارب النسيان وسأكون وحدي.

في هذه القرية لا يحب الأخ أخاه، ولا يهزّه موته. وثمة بيت وسط القبور تحبّه الأفاعي والعقارب ولا يحبه أهله. سكنتْه منى حبي الأول. كنت في الحادية عشرة حين كشفتُ لها عن حبي. منى كانت في العاشرة، قالت حينها إنها تحلم بي وإن قلبها يؤلمها من الفرحة لرؤيتي. كانت أمي تقول إن البنات في القرية يكبرن سريعاً وإنهن يولدن مراهقات ومستعدات للمغامرات.

زارتني منى اليوم صباحاً. تعيش في بيروت، لكنها تزور القرية في عطلة نهاية الأسبوع. تصرّفتْ كأنها تعرفني جيداً، كأنني رأيتها البارحة. وجهتْ إلي أسئلة وأجابت هي عنها وابتسمت وضحكت وثرثرت في الدقائق العشرين التي التقينا خلالها. لم تترك لي مجالاً للمجاملة، كان ذلك مريحاً ومسلّياً إلى حد ما. بعدما غادرت منى، اكتشفتُ أنني قادر أيضاً على الكره وأنني لا أحنّ إلى أيامي في القرية. لا أحنّ أبداً إلى طفولتي التي أبحث فيها عن أمي فقط.

بعدما غادرت منى اكتشفتُ أنني أستطيع أن أغمض عينيّ لأمحو الوجوه التي أكرهها. أمحوها بمكنسة الساحرة الشريرة أو بكمية كبيرة من مسحوق الكره الفعّال. عدت لا أقدر على المسايرة وتضييع الوقت. وفي الأعوام الأخيرة فضّلتُ الصمت على الثرثرة. هذا ما أحبتْه «إيمّا» فيّ، قالت. لكنها تركتني.

إذا تكلّمت أمي، إذا غادرت صمتها، لن تصدّق أن «إيمّا» موجودة. وربما في داخلها، إذا كانت فعلاً تسمعني تشفق عليّ، أم تراها سعيدة بمخيّلتي وقدرتي على اختراع أشخاص «حقيقيين» ووصفهم كأنهم من لحم ودم؟ أنا أيضاً من لحم ودم وأسئلة. أشتاق إلى شعور لا أعرف تحديده، إلى وجه غابت عنه ملامحه. أطبق بكفيّ على كفّ أمي وأشتاق إليها. لا أخاف من صمتها. لكنني أفتقد مع صوتها جزءاً من حياتي لم أشفَ منه بعد. قصدتُ أن أؤجل الشفاء منه وأنا في الخارج، خارج البلد والعائلة، خارج أي شعور بالانتماء. تقوّيتُ بعريّ وحدتي وأصبحت أكثر حكمة.

المجلة الالكترونية

العدد 1079  |  تشرين الثاني 2024

المجلة الالكترونية العدد 1079