تحميل المجلة الاكترونية عدد 1077

بحث

أيام معلّقة

في زمن معلّق ينتظر فيه الهدوءُ الزائفُ الانفجارَ لا بد أن تكون الحياة معلّقة والمشاريع أيضاً والأمكنة. كتاب «بيروت الثكلى» (إنتاج بينالي الشارقة) واجهنا بهذه الحقيقة من خلال الصور. الحقيقة قبالتنا، الحقيقة في عيوننا، لكننا نحتاج إلى صور مثل صور زياد عنتر كي نعترف بأن البنايات التي اعتدنا رؤيتها غير مكتملة، تشبه حيواتنا ومشاريعها، وبأن حيواتنا وحيوات أهلنا قبلنا قُطع تطوّرُها. الحرب الأهلية الطويلة الأمد (يجب أن نحدد الحرب المقصودة) انتهت، لكن أيامنا ظلّت معلّقة بماضينا (ماضينا الذي هو أغرب من الموت كما كتبت رشا سلطي)، بالحرب نفسها وبالسلم وأحداثه غير المنطقية. لكننا اعتدنا «تأخّرنا عن البشرية» واعتدنا أن نكون معلّقين، نحن نعتاد الأوضاع كلّها. اعتدنا قبح البنايات، التي صوّرها عنتر، غير مكتملة وثقل وجودها،ألفنا منظرها.

الصور في كتاب «بيروت الثكلى» تحكي الحرب وما بعدها. ونص سلطي يرافق الصورَ ويحكي عن الحرب وما بعدها. تنقل كاتبته رؤيتها للأحداث، فتكتب ما تسنّى لنا أن نفكر فيه بعد الحرب، وبعد الوعود «بالعمران» والحياة الجميلة حين عرفنا أن الأمور ليست على ما يرام، كما يقال لنا، وأننا ندور حول أنفسنا ونستسلم لفقدان الذاكرة. «أتذكر أنني كنت أحياناً أستسلم لفقدان الذاكرة وأرتاح من ثقل الأشياء الفائتة. كنت من الذين يعانون أثناء تحوّلهم. لم أكن وحيدة، كنت أعلم جيداً أن هناك آخرين الذين كانت حيرتهم أكثر وضوحاً مني والذين كانوا معطوبين وخارج المكان. الموضوع لم يكن أن الحرب أعطتنا مكاناً، على العكس لم نكن مؤمنين بخطة الحكومة لما بعد الحرب، ولم تكن لدينا الأدوات أو الدوافع كي نحوّل أنفسنا إلى صيغة جديدة من أنفسنا. ففي هرولة الجمع إلى الأمام كنا نجرجر أرجلنا.»

سرد رشا سلطي سلس وشعري (كان يمكن أن تكون ترجمته إلى العربية أفضل). حوّلت الكلمات قطع بازل يحاول تسلسلها أن يجيب عن سؤال: ما الذي جرى؟ ثم تحاول الكلمات تركيب نوع من إجابة تركيباً غير معقد مع لمحات شخصية. تتذكر، فتكتب ذكرياتنا. تكتب عن نشأتها في الحرب، كأنها تكتب عن جيل كامل وعن كثيرين مثلها شعروا «بين العفو وفقدان الذاكرة وطيف الحرب، بالغربة خارج المكان في السنوات الأولى من العودة إلى الحياة العادية.»

هذا النقد عرضته بعض التجارب الروائية وبعض الأفلام الوثائقية والروائية اللبنانية. لكننا كلما أعدنا قراءة ما فعلناه بأنفسنا وتفرّجنا عليه من بعيد، ندهش. «كيف ولدنا من جديد؟» وكيف أصبح أمراء الحرب ممثلينا في البرلمان ووزراء في الحكومات وكيف انتخبناهم وننتخبهم؟
الخيبة المكتوبة نقلتها الصور التي أظهرت أيضاً الحركة العمرانية الجديدة المتسرّعة. ثمة بنايات توقّف زمنها بينما هناك سباق لإنهاء العمارات الجديدة لإشباع الأطماع التي لا تشبع.

نصوّر لنلتقط اللحظة المتغيّرة وكي لا ننساها، ونصوّر لنلتقط الأشياء الثابتة موقتاً ونفهمها. ونكتب كي نُذكر بأننا لا نريد أن ننسى وبأن فقدان الذاكرة القسري أخطر من النسيان. ولن ننسى، فالحرب لم تنته تماماً. سؤال واحد يجب أن يكون طرحه الهدف الأهم: لمَ جرى ما جرى؟
أما الإجابة فليتها لا تكون المستحيل.

«بيروت الثكلى»

فوتواغرافيا: زياد عنتر
نص: رشا سلطي
ترجمة: محمد طلعت خضر

المجلة الالكترونية

العدد 1077  |  آب 2024

المجلة الالكترونية العدد 1077