تحميل المجلة الاكترونية عدد 1077

بحث

تجّار الهواء

كيف صدقتُ أن الحواجز أزيلت وأن التوافق سيطر على الشوارع؟ قلتُ يومها لصديقي الآتي من هجرة طويلة بدأت بعد أعوام قليلة على بداية الحرب في لبنان: «لا أبداً، لم تعد متأججة، تستطيع أن تقول إنها تنطفئ». كنا نتكلّم على ما نسميه في لبنان «الطائفية». ثم شرحتُ له: نحبهم ويحبوننا، الكل يحب الكلّ.

كنت وما زلت ساذجة. لكنني كنت مقتنعة بما قلته له. أحلّل سذاجتي وأقول إنني أيضاً كنت صادقة حين قلت ما قلته. كان للمكان الذي عشت فيه طفولتي دور في بقائي بعيدة عن فهم الخوف من الآخر وعن استيعاب فكرة ألا تقبله أو ألا يقبلك. تربّيت في بيروت في منطقة عاشت فيها عائلات من مختلف الطوائف. أقول دوماً إننا في تلك المنطقة من بيروت كنا محظوظين. لم نخف من بعضنا، ولم نفهم الفروق التي عززها السلم بدلاً من أن يلغيها. في الجامعة الأميركية في بيروت وبعد خمسة أعوام على انتهاء الحرب، ثمة بين زميلاتي مَن كانت تبكي ضياعها في منطقة ملوّنة بالاختلاف بعيدة عن المنطقة «التي تعرفها» والتي لا يعيش فيها فرد واحد من الآخرين. ضحكتُ يومها، ثم صحبتُها في جولة في بيروت «الغربية»، وأصبحت الصبية التائهة أعز أصدقائي.

تذكرت طفولتي في المنطقة المحظوظة من بيروت بعدما شاهدت فيلم «هيدا لبنان» لإليان الراهب التي حاولت أن تشرح لنفسها ولنا من خلال فيلمها الوثائقي رؤية أهلها «الموارنة» لما جرى في الحرب ولعلاقاتهم بالطوائف الأخرى وإيمانهم بأنهم «صنعوا لبنان» كما يقول والد المخرجة وضيفة والدتها في الفيلم. والمخرجة جريئة في تصويرها بيئتها والغوص في بنيتها ونقدها، ولطيفة وممتعة في استفزازها والدها الذي «يجد نفسه» في بيئته المارونية ويعتبر ابنته المخرجة «الإبنة الضالة» لأنها لا تتبنى تعلّقه بهويته الطائفية.   

الفيلم البسيط والممتع والعفوي أضاء ببساطته على القضايا المعقدة والمعلّقة في لبنان، أشار إلى التاريخ غير المكتوب والمتعدد والجامد في الوقت نفسه والمتشظي، إلى الحاضر الضبابي والفارغ من الأمل والبعيد عن التطور الطبيعي والإيجابي. الفيلم حكى عن لبنان الذي يصعب فهم وجوده ونظامه السياسي المعلّق بعوامل داخلية وخارجية وعالمية...

خرجنا من صالة السينما مرتاحين، «هذا جسر يؤدي بنا إلى أفكار بنّاءة». قال صديق. وهذا بناء حقيقي لا علاقة له بأطماع مَن لا يشبعون والذين يحلمون بـ«بناء» في كل فسحة فارغة في بيروت، ويحققون حلمهم قبل أن يصحوا منه. «كل عام وأنتم بخير» لا أقولها. تتسلّل إليّ يوم الإجازة أصوات «البناء»، وتغيّر المنظر من نافذة الصالون في بيتي، ومن الشرفة أيضاً، بعدما أخفت الحجارة البحر والسماء والهواء. الحياة في بيروت تجعل أي محاولة للتعبير عن أنفسنا مرتبطة بالمكان أولاً وأخيراً.

 

المجلة الالكترونية

العدد 1077  |  آب 2024

المجلة الالكترونية العدد 1077