تحميل المجلة الاكترونية عدد 1077

بحث

أول الليل

أنتظرُ في المقهى أن أجلسَ مع وجهها. لكنها لم تأتِ. في العادة أحبّ أن أجلس وحدي إلى طاولة خجولة في المقهى، طاولة بعيدة تختبئ في زاوية بعيدة يختارها الهاربون مثلي من الساحات والتجمّعات ومن صخب الثرثرات التي تحاك ببراعة في المقاهي. لكنني أحب المقاهي حيث أقترب وأبتعد في الوقت نفسه من أجسام حائرة مثلي في ترتيب أولوياتها وإطلاق عناوين على مراحل عمرها وتنظيم سَيْر أيامها. لا أنتظرها، أشرب قهوتي وأقرأ الصحف محاولاً فكّ ألغاز العلاقات بين وجوه الصفحات الأولى وبين هؤلاء الذين أوصلوها إلى الصفحات الأولى وهم يحاولون النهوض من تحت خط الفقر أو التمسّك به كي لا ينزلقوا إلى تحته. لم تكن المقاهي أمكنة يرتادها الأغنياء فقط أو أشباه الأغنياء. ظننت المقاهي بيوت الجميع حيث يلتقي المستفيدون والمستفاد منهم. لكنني أخطأت.

أنسى أنها لم تأتِ بعد وأنها ربما لن تأتي أبداً. أترك الصحيفة وأفتح باب الكومبيوتر، فتستقبلني موسيقاه. أدوّن اسمها وأبحث عن معلومات تدلّني إليه أو إليها. ولا أنتظرها. أبحث عن معلومات عن أصدقاء قدامى وأتفرّج على شاعر أحبَّتْه وهو يلقي قصيدته الأخيرة. أتفرّج على تفاصيل وجوه تتنشّق كلمات الشاعر وتتنهد. ماذا حدث لهؤلاء؟ أين أصبحوا؟ في تلك اللحظة البعيدة في الزمن، القريبة مني حتى أكاد ألتقطها كانوا جمهوراً، جمهور شاعر حيّ. كان جميلاً في صيف عام ١٩٩٧، وبعيداً عن الموت بالرغم من الإشارات التي أرسلها الموت إليه. أين كنتُ أنا في صيف عام ١٩٩٧؟ في أميركا أقرأ وأركض هرباً من فكرة العودة إلى لبنان. لا لن أعود، أنا في بيروت الآن، لكنني لم أعد. ليست زيارتي هذه عودة، هي مسرحية.

لا أنتظرها، وأتأمل الشاعر الذي أحبَّتْه. أتذكر أنني حاولت كتابة الشعر خلال مراهقتي وما استطعت. كانت أمي تخجل من محاولاتي وتقول: «لماذا أنتَ ناعم هكذا وحساس؟» حين هربت من أمي، وفي أعوام هروبي الأولى كتبت ثم نسيتُ ما كتبته. عشت مع شخصيات ابتكرتُها وأحببتُها وأحييتُها وقتلتُها. وكان يمكن أن أكتب سيناريو فيلم بوليسي في تلك الفترة، فيلم عن حرب قذرة تربّيتُ في أحضانها.
نسيت شخصيات ابتكرتها وكتبتُ لها قصصاً. هل ينسى كاتبٌ شخصياته كما يمكن أن ينسى ممثل أدواراً أداها؟
إذا ظهرت هدى أطرح عليها سؤالي هذا. ولمَ ما اتصلت لتقول إنها لن تأتي.

الليل في أوله، وفي أول الليل أحار في ما أريد فعله، وأستعجل العتمة التامة. أستعجل غياب ألوان السماء، أستعجل السواد. عدت لا أنتظرها، من شاشة كومبيوتري المحمول أطلّ على جمهور في فيلم فيديو مات بطله منذ عام وما زلت لا أصدّق موته. أراه الآن كاملاً، أحدّق إلى يديه وأصابعه وأسمع صوته. الجمهور أمامه عريض وصامت وأنا أُسكت فيضَ دهشتي.
لا أنتظر هدى. أدّعي مجدداً أنني مشغول بالصحيفة وبأوراقي، أدعي أنني أكتب وأنني منكبّ على نحت كلماتي وأنني لن أغادر المقهى قبل أن أصرخ: «وجدتُها» ثم أكتب ما وجدتُه أو تلك التي وجدتها.
لا أنتظرُ هدى لكنني أكتب لها: لا تعرفين تأثيرك فيّ حين تغيبين.

المجلة الالكترونية

العدد 1077  |  آب 2024

المجلة الالكترونية العدد 1077