تحميل المجلة الاكترونية عدد 1077

بحث

رحلة بوليسية

لم أسألها: لمَ تريدين قتلها؟ ظننتُ أن كلام هدى عن التخلّص ممن تقول إنها صديقة طفولتها موضوع لا يحتمل أن أتناوله بجدية. لكنني بعد لحظات من اعترافها برغبتها في التخلّص من تلك المرأة التي لا أعرفها أنا، لم يختف الشرّ من عينيّ هدى. لم يختف بعدما أنهت جملتها. لم تغيّر الموضوع ولم تتحرّك من مكانها، لم تقل لي: «هل أنت مجنون؟ أنا أمزح معك». انتظرتُ جملة مثل هذه، لكنها لم تقلها. بقيتْ جالسة على حجر ضخم وأنا أدور حولها، أتأمل شعرها الأسود على ظهرها ثم أحدّق إلى وجهها، وجه طفلة شريرة.

أعجبتني اللعبة، يستحيل أن تكون أكثر من لعبة. لم أقل شيئاً. أردت أن أقول لها إنها مجنونة وإنني لسبب ما أجهله، أصدّق جنونها وأنساق إليه.

- «ألا تريدين أن تأكلي؟».

- «سأموت من الجوع، ولم أشرب قهوتي بعد. وأنت ماذا تريدني أن أخبرك بعد عن نجوى لتقتنع بأنها ولدت لتلغيَني، لكنني لن أسمح لها بذلك، ولن أتنازل لها هكذا بسهولة عمّن أحبهم بعدما تنازلتُ لأخيها عن طفولتي».

كانت هدى قدأخبرتني عن مطاردات حسان لها وهي طفلة، وعن محاولاته التحرّش بها. هذه القصة جعلتني أشك بأنها تخترع التفاصيل لتحافظ على دهشتي بها وبحكاياتها. وكنت سعيداً بالجهد الذي تبذله كي أبقى معها، وما زلت مصرّاً على أنها تقول ما تقوله لأبقى معها.

صمتُّ مجدداً، وهاهي الآن تعود إلى الموضوع نفسه، وأنا ما زلت مفتوناً بها.

في لقائنا الأول خارج المكتبة حيث اكتشفتُها واكتشفتْني، انتبهتْ إلى أثر جرح في يدي لم يختف. «إصابة حرب» قلت وابتسمت. تذكرت أمي تلك اللحظة. كنت أركض نحوها بعدما أفزعني صوت رهيب أعلن بداية المعركة، فوقعت فوق سلك حديدي في حديقة بيت كنا استأجرناه في بحمدون وأصبت أو جرحت يدي. أذكر رائحة القطن الذي كبست به أمي على الجرح ليتوقف الدم. وخلال ساعات كنا على الطريق في سيارة أحد أقرباء أمي نبحث عن هروبنا الثاني.

لا أعلم لمَ تعود هدى دوماً إلى قصة هذا الجرح وتطلب مني أن أعيد حكايتها.

- «لا تسأليني عن المعارك الآن وأصوات الألعاب النارية. أريد أن آكل».

أكلنا وأنا أتساءل لمَ يجعلني وجودها إنساناً آخر. ما سرّ هذه الفتاة؟ حين رأيتها في مكتبة الجامعة الأميركية أعجبني مظهرها لكنني لم أتوقع منها كل هذا الغموض. ما زلت لا أعرف قراءة الوجوه وحركات الأجسام.

نأكل بين أشجار الصنوبر ونشرب القهوة في ضيافة الهدوء. كم أنا سعيد الآن كنت أفكر، وأقول في داخلي لحبيبتي الأميركية إيما «لن تعرفيني إذا رأيتني الآن».

بعدما ردت هدى على رنين هاتفها قالت: «يجب أن أعود الآن، أبي وصل من السفر وهو ينتظرني في البيت».

- «لديك أب؟»سألت بتعجب محاولاً أن أمزح معها.

لم ترد، وحين نهضتْ من كرسيها نهضتُ. وتركنا المكان الرائع لصدى صوتي يطارد صدى صوتها.

لا بد أنني أؤثر فيها، وإلا كيف وصل إليها هذا الهمّ كلّه وهذا الحزن كلّه؟

- «لا تتأثري بي أرجوك»، قلت لها في طريق العودة. و«إذا أردت أن نتكلّم على نجوى وما فعلته بك، فلنتكلّم. سأداويك صدقيني. ألست طبيبك كما قلت لي؟». 

المجلة الالكترونية

العدد 1077  |  آب 2024

المجلة الالكترونية العدد 1077