تحميل المجلة الاكترونية عدد 1077

بحث

جاذبية الكراهية

هل المكان أهمّ من حياتنا فيه؟ المكان برمزيته ودلالاته وتأريخه لرحلتنا في الحياة منذ لحظتها الأولى. المكان مهم أهمية الحياة، المكان حياة. ونحن لا نختاره، لا تصدّقوا هؤلاء الذين يقولون إنهم اختاروا الانتقال من لبنان إلى فرنسا أو من بيروت إلى دبي. المكان يختارنا، ويعذبنا اختياره لأننا لا يمكن أن نكون موضوعيين في علاقتنا به. لا يمكن أن نهرب من الحنين ومن حفلات البكاء على مكان فقدناه وربما ما كان موجوداً أصلاً.
أقول لهدى إنها أصبحت مكاني الآن هنا، هي مكاني في هذا المكان الذي ما عدت أعرفه.
- المكان الآن هو أنت يا هدى. المكان بيروت وجسمُك واللحظة التي تجمعنا واللحظة التي ربما جمعتنا من قبل. فتكلّمي. ماذا تقولين؟
- أنت تخاف من نيويورك لأنك تخاف من أن تنهي علاقتك بإيما حبيبتك الأميركية. كيف تستطيع ألا تحب نيويورك؟
- مَن قال إنني لا أحب نيويورك؟ حين قررت أن أعيش فيها، وبعد أيام من صدمتي الأولى بها قررت أن أموت فيها أيضاً. نعم هذا ما قررتُه ولن أغيّر قراري أو أعدّله.
-ألا تستطيع ألا تتكلّم على الموت؟ تحب أن تحكي عنه. أنت مثلي تحب أن تحزن، تقتنع بالحياة حين لا تكون خفيفة، حين يثقلها الوجع. أنا أيضاً أفرح حين أحزن، يبتسم قلبي إذا بكى. لكنني أذكى منك وأستطيع أن أغيّر أقنعتي سريعاً. خذني معك إلى نيويورك.
- ربما لن أعود قريباً، أظنني سأبقى هنا الآن، بين القرية وبيروت.
وجدت أنا وهدى البناية التي بحثنا عنها في منطقة الروشة. هنا عاش شاعر مات العام الماضي، لكنني ما زلت أعيش معه، أعيش مع حياته في الكلمات ولا أصدّق أنه ترك الكلمات ورحل. هنا أمام مدخل البناية نستطيع أن نجلس لنخطط للتخلّص من نجوى.
- «هنا تعيش نجوى، صديقة الطفولة التي سرقت مني حبيبي». قالت هدى.
أمام مدخل البناية نستطيع أن نجلس لنخطط للتخلّص من نجوى.
- «إذا أخذتكِ معي إلى نيويورك أكون قد خلّصتك منها»، قلتُ.
- «ربما، لكننا هنا الآن، وأنا من حقي أن أنتقم».
- «ليس من حقك أن تفبركي كل هذا الحقد».
- «لا أريدها أن تكتمل بعدما حصلت على ما نقص من حياتي».
- «لن أستطيع أن أقف في الشمس كل النهار. ما الذي نفعله هنا؟ ماذا لو رأتك؟».
- «لن تلمحني، فهي ليست هنا».
- «ولم جئنا إلى هنا إذاً؟».
- «لا أعرف ما الذي يأتي بي إلى مكانها، ربما هو كرهي لها. يجذبني إليها كرهي لها».
- «كيف تعرف الكره فتاة ذكية مثلك؟».
أتعب من الحديث معها وأبقى على أعصابي. لكن لا يمكن أن يمرّ يوم من حياتي في لبنان دون أن أراها فيه.
عدت إلى البيت منهكاً من الحوار معها مع أننا لم نفعل أي شيء خلال النهار كله. ما الذي أنتظره منها؟ كنت عجوزاً وغيّرني لقائي بها وعقلها الخطر وجنونها.
تريد أن ترى صورة لإيما. في محفظتي جزء من صورة التقطتها لإيما في المطعم المغربي القريب من بيتي في نيويورك. لكنني قلت لهدى إنني لا أحمل لإيما أية صورة.
لا أصدّق أنني أحب امرأتين. لم أكن يوماً مراهقاً، ولا أريد مراهقة متأخرة، ليس لأنني أهتمّ بما يقال وبما يمكن أن يقال، فأنا لا أهتم بالآخرين ولا أبالي بهم وبما يقولونه بل لأنني ببساطة شخص جدّي بل دمي ثقيل من فرط جديتي. هدى أنستني نفسي، لأجلها فقط أقبل بالمراهقة.

المجلة الالكترونية

العدد 1077  |  آب 2024

المجلة الالكترونية العدد 1077