تحميل المجلة الاكترونية عدد 1077

بحث

روائح المكان

روائح المكان

كم مرة قاومتُها؟ كم مرة أقاومها؟ تنسيني مكاني وسبب عودتي إلى قريتي. تنسيني برنامج يومي وتغيّره دون أن أدري. هل تفهم عليّ حين أقول لها إن المكان لا يخرج مني؟ هل فهمت أي شيء مما قلته لها؟

وأنا ما زلت لا أصدّق أنني تركت أميركا كلّها، وأنني أتمشى صباحاً في «زاروب الهوا» أمام بيت جليلة بائعة الحليب. وحين أمشي في بيروت، تختلط في ذاكرتي مشاهد من قبل أن أغادر لبنان عام 1987 ومشاهد من أيامي في نيويورك بمشاهد جديدة لبيروت غير جديدة تماماً، لكنها ليست بيروت التي عرفتها، بيروت أخرى.

كم مرة أقاوم هدى؟ لا أحس الآن بأنها تمشي معي. خفّتها تجعلني أدمنها. لا أصدّق أنني أتعلّق بها وأنني أصبحتُ لا أهرب من موعد نتفق عليه. هي أيضاً تمشي كأنها تبحث في الشوارع عن نفسها.

- «لا تعذبي نفسك كي ترضيني»، أقول لها. «لا أستأهل عذابك. وما زلت صغيرة على تحمّل شقاء صحبتي».

لكنني بالنسبة إليها مغامرة هي بطلتُها، وأنا الرفيق أو الطريق إلى أيام مختلفة أو ربما إلى تصفية حسابات مع طفولة أنضجتْها أحداثُها التي ما زلت لا أصدق بعضها، بالرغم من أنها «لم تكشف لي كل شيء» كما قالت.

- «أعطني يوماً واحداً، يوماً كاملاً Please».

قبلتُ. اتفقنا على أن نلتقي الأربعاء في الثامنة صباحاً، وننطلق في رحلة إلى المكان المفاجأة الذي اختارته. لم تكن متحمسة لرحلة سياحية أو رحلة لتهدئة أعصابي. فكرت في أنها ربما أرادت أن تبعدني عن أمكنتي وتقتلعني من إطار برنامج خططت حياتي الجديدة في لبنان على أساسه. ربما تريد أيضاً أن تفاجئني بخبر أو اعتراف أو أن تطلب مني أن أتشارك معها في تنفيذ خطة أو التخطيط لجريمة. أتوقع من هدى أي شيء، وأعرفها منذ أقل من شهر. وهي ترفض أن أتحدّث عن عودتي إلى أميركا كأنها هي أمي التي جئت لأعيش معها أيامها الأخيرة. وها أنا أضحي بيوم آخر مع أمي وأتحمّل عذاب ضميري كي أمضي يوماً واحداً مع طفلة غامضة ومجنونة. كما أنني لست واثقاً بأنها لا تخترع كل ما قالته لي عن نفسها.  

لم أقاومها. قبلتُ بأن أرافقها إلى الجبل عبر طريق تذكرتها جيداً، لكنني لم أقل شيئاً. لن أعرّف هدى إلى أمكنتي كلّها، لن أشرح لها مجدداً تعلّقي المرضي بالأمكنة وحنيني الغبي إلى روائحها والصباحات فيها.

- «أنا طفل»، أقول لهدى. «فلا تعتمدي عليّ ولا تصدّقي صوتي. تلك الثقة التي تدّعيها نبرته خادعة، ولا أستطيع أن أتحكّم بها».

وصلنا. أوقفتْ السيارة. ألحق بها. تجلس تحت شجرة صنوبر لترسم لي خطة اليوم بحجر صغير في يدها.

- «ما الذي تخططين له؟».

تبدو قلقة. لم أرها قلقة من قبل، فهي دوماً واثقة بنفسها وقادرة على أن تسخر مني أو من والدها أو من أي شخص يمكن أن تصادفه في المقهى أو في الشارع.

- «أريد أن أتخلّص منها». كتبتْ على ورقة صغيرة صفراء ثم مدّت الورقة إليّ، قرّبتْها من عينيّ وألصقتْها بوجهي.

- «ممن؟» سألتها.

- «من هلا» قالت، «هلا التي تعيش حياتي بعدما سرقتها».

- «أتريدين أن أخطفها وأحملها معي إلى نيويورك؟».

لم تبتسم. لم تقل أي شيء. وأنا من فرط دهشتي، اكتفيتُ بالصمت.

المجلة الالكترونية

العدد 1077  |  آب 2024

المجلة الالكترونية العدد 1077