تحميل المجلة الاكترونية عدد 1077

بحث

في المغطس

في مغطسٍ صغير ودافئ أُغرقُ سأمي.

أنقع تحت غطاءٍ ناصع من الرغوة العطرية المنعشة إحباطات تتغلغل في روحي كبقعة قهوة سوداء على قميصٍ أبيض، فيبدو كلّ شيء خارج باب الحمام صغيراً وتافهاً.

كل تلك الاصوات التي تُردّد اسمي كوِرد يومي مصحوب بشتى أنواع العشم وأُلبّيها مرغمة بلا تفكير تتلاشى فورا في فضاء من السكون فلا أكاد أسمعها. كل تلك الأكفّ التي تطرق الباب في سمفونية نشاز وتحمل عبئاً جديداً عليّ أن أربطه في سلسلة الاعباء المعلقة في عنقي كالساقية تصمت فجأة . كل شيء لا يحمل لي معنى الانتعاش  أتركه خلفي يتوارى شيئا فشيئا خلف الأبخرة المتصاعدة من المغطس بينما أدخل عالم الحلم المفعم بالسكينة و«التطنييييش» والصمت.

- «كل هذا سباحة بسرعة محتاجة الحمام...»

أقبض ببطء على (الاسفنجة) الناعمة، أعصر قلبها بكفي فتتساقط أوجاعي مع قطرات (الشاور جل) ناشرة في الأجواء عبق الشاي الأخضر، ومن آخر نقطة في ساقي أمرر الاسفنجة على جسدي بحركات دائرية مسترخية ولا أرد على أحد. لا الأصوات المحيطة بي تستنزف جسدي المنهك ولا الأصوات المستوطنة عقلي منذ الوعي الأول تقتاتُ على روحي ولا تتوقف. فقط رائحة الصابون المنعشة والشمعتان العطريتان و(سيناترا). يُرددُ منذ الخمسينات وعداً شاعرياً ساذجاً لا يناسب واقع الألفية الجديدة المصاغ في معادلات واضحة ومحددة تقضي ماديتها على جميع السذاجات حتى اللذيذ منها.

ومن مكان بعيد تصلني تهويمات مبهمة لرنات جوّالي الملقى بإهمال في إحدى زوايا غرفتي القريبة فتبدو وكأنها قادمة من بعد آخر.

رنات مختلفة لأوجاع مختلفة وأشخاص مختلفين يهدونني كل مرة مسبحة ينظمون فيها خيباتي عشراً عشراً، ثم ينصرفون غير عابئين بحفلات الانتظار المربكة تلك التي يتمايل فيها تَوْقي على إيقاع الدف كـ(درويش) بين يمين النشوة وشمال اليأس.

-« وش قاعدة تسوين كل هالوقت!»

أقفُ  فينحسرُ تاريخي قطرة قطرة، أمسحُ ما تبقى منه بمنشفتي الوردية وألف بها روحي. وأمام المرآة المشبعة بالبخار ألمحُ  الوجه المختبئ خلفها ينتظر أن أعيد تشكيل ملامحه وأُماطله كل مرة. أنحني على الشمعتين الموقدتين أنفخ فيهما ما تبقى من سأمي، أُحِكم  امساك منشفتي باحكام، وبيدي الموضوعة على مقبض الباب المبلل أنتزع (واقعي) بجلال، أفتح الباب وأخرج.

المجلة الالكترونية

العدد 1077  |  آب 2024

المجلة الالكترونية العدد 1077