تحميل المجلة الاكترونية عدد 1079

بحث

محو الأمل

محو الأمل

اعتمدوا على الوقت. قالوا إن الزمن يأخذ بحقّ البلد الضحية الذي غيّرت مأساتُه خريطة المنطقة ومصائر أهلها. بعدما اقتنعوا بأنهم غير قادرين على مواجهة الوحش، قالوا إن الوقت ربما يمحو الوحش وأبناءه ويزعزع عقيدتهم، وإن المظلومين يتكاثرون ولا ينسون. لكن الوقت نفسه ينسى الضحايا الجدد الذين أصبحوا ينسون أنفسهم. وقد تعبوا، نعم تعبوا حتى ما عادوا قادرين على أن يرِثوا العظماء الراحلين بينهم. هكذا يخفت بريق الأمل. محمود درويش أصبح واقعياً وإنساناً عالمياً في الأعوام الأخيرة، اتسع قلبه وعقله وإنسانيته، ولم يتخلّ عن الأمل. فهل الضعفاء فقط يتمسّكون بالأمل؟ لكنهم يسرقون من الضحية اللغةَ، وسيلةَ المقاومة المتاحة والمنطقية، والقادرة على أن تقدم منزلاً ووطناً وحلماً.

قرر الإسرائيليون أن يغيّروا الأسماء العربية في لوحات الطرق واتجاهات السير، وأن يسمّوا المدن والمناطق الفلسطينية، تاريخياً، بأسماء عبرية. بعدما غيّروا المكان ها هم يغيّرون أسماءه وينتقمون من اللغة. هم أيضاً يعتمدون على الوقت، ورغم أسلحتهم الكثيرة، يستعملون سلاح المتعلّقين بنُتَف من أمل يجدّد نفسه كل ثانية.

كتابة فوق كتابة، اسم «يوروشلايم» لن يمحو اسم القدس من الذاكرة التاريخية وذاكرة الحاضر وذاكرة الغد. 

«فلا شيء يزول أو يمكن محوه»، كما قرأتُ في رواية العراقي علي بدر «مصابيح أورشليم»، (مستلهماً الفكرة من كتاب جيرار جينيت Palimpsest الذي يصف عنوانُه هذا لوحاً يُكتب عليه مرتين أو ثلاثاً بعد مسح الكتابة الأولى عنه). «من خلال الرواية المدحورة تتقهقر الرواية المنتصرة وتظهر المدينة بكتاباتها الممحوة وذكرياتها المتروكة والمهملة.» («مصابيح أورشليم» ص 64)

لكننا نحتاج إلى ورثة الشعراء والكتّاب والمثقفين الذين هزمهم انتقام الجلاد أو المرض، لنواجه ما يكتبونه من تاريخ متخيّل وتغييرهم لمعالم المكان واستباحتهم اللغة.

نحتاج إلى ورثة إدوارد سعيد الذي بين ما كتبه عن تزوير التاريخ ومحو الذاكرة، كتب أيضاً عن تغيير أسماء الأماكن من أسماء عربية إلى أسماء عبرية... وتغيير هوية الأرض عبر بناء المستوطنات و«إقحام الأسلوب الأوروبي في بناء البيوت المتشابهة التي ما كان لها وجود في المشهد العام، ولم يسبق أن كانت جزءاً من الطوبوغرافيا المحلية... هذه المستوطنات تشبه قلاعاً حول القدس وقُصد عبر إنشائها إبراز القوة والتلاعب بالجغرافيا واختراعها ووصفها بعيداً عن وجودها الحقيقي الواقعي.»

نحتاج إلى مَن يكمل كتابة الأمل الثابت تحت قواعد اللغة والمنطق والكلمات أو على الأقل إلى مَن يحترم إرث هؤلاء الذين دعموا الأمل بذرائع ومبررات. أما ما قرأناه عن القمامة والزهور الذابلة حول ضريح الشاعر محمود درويش في رام الله، فهو محو للأمل يضاف إلى سلسلة محو الماضي ومحو الذاكرة ومحو اللغة.

يسرقون من الضحية اللغةَوسيلة المقاومة المتاحة والقادرة على أن تقدم منزلاً ووطناً وحلماً.

المجلة الالكترونية

العدد 1079  |  تشرين الثاني 2024

المجلة الالكترونية العدد 1079